من الثوابت في عالم النثر أن الكتابة بشكل عام أدب وضّاء يخوض بحره الكثير ولا يصل مرافئه إلا القليل، وهذا النفر القليل يرتفع بعضهم فوق بعض درجات، بحسب الحقل الذي يحرث فيه الأديب ويشتل فسائله.
وأدب الرحلات هو واحد من فنون الكتابة النثرية التي شاعت منذ أن عرف الإنسان الكتابة والتدوين، وفي كل لغة وأدبها اشتهر رحالة جابوا البلدان ونقشوا على سجل الذاكرة مشاهداتهم وما التقطته عدسة أنظارهم وما رشح عن رؤاهم، ولهذا تقفز الى الواجهة أسماء مثل ماركو بولو المتوفى سنة 1254م وفاسكودي غاما المتوفى سنة 1460م وفرديناند ماجلان المتوفى سنة 1480م وإبن بطوطة اللواتي الطنجي المتوفى سنة 1377م، وغيرهم كثير.
فالقاسم المشترك لكل هؤلاء الرحالة بغض النظر عن الدوافع التي دعتهم الى السوح في البلدان ويقطعون الأنهار والبحار والوديان، أنهم يسجلون مشاهداتهم وانطباعاتهم عما يرون ويسمعون، وبعضهم يزاوج بين الرؤية العيانية وبين إبداء الرأي، وبعضهم يضع نفسه بمقام آلة التصوير والتسجيل يقيد ما يرى ويترك وجهات النظر والإنطباعات لكتابات أخرى أو لآخرين ديدنهم التنقيب في التراث.
وإلى جانب أدب الرحلات يتصدر عالم الكتابة أدب المشاهدات الذي يجمع بين المشاهدة الذاتية وبين الرؤية الشخصية، ويتميز هذا الأدب أن العدسة فيه ذاتية الذبذبة، أي أن المشاهدة من داخل البيت على غرار "أهل مكة أدرى بشعابها"، حيث يحرر الكاتب والأديب مشاهداته عما يجري حوله في المدينة او البلد الذي يعيش بين ظهرانيه لتصبح ما سجلته محبرته تحفة أدبية قيمتها في توثيقها للواقع الإجتماعي وما يرشح عنه، تمثل ذاكرة متجددة يعود اليها الأبناء والأحفاد، وأدب المشاهدة هو أقرب الى أدب المذكرات حيث يسجل المرء ذكرياته التي تنطوي على مشاهدات وتصورات ورؤى وقراءة ذاتية للواقع.
بين يدي كتاب "كربلاء كما شاهدت" يثبت فيه الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي جانبا من مشاهداته في مدينة كربلاء المقدسة حيث مسقط رأسه في العشرين من شهر اكتوبر تشرين الأول عام 1947م حتى خروجه منها سنة 1971م، والكتاب في 80 صفحة من القطع المتوسط صدر حديثا (2017م) في كربلاء المقدسة عن دار الوارث للطباعة والنشر وأشرفت على طباعته شعبة إحياء التراث الثقافي والديني بقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة.
ومضات مشعة
وعند مرورنا على عناوين هذا الكتيب وفهرسه ندرك المساحات التي تتحرك فيها عدة الكرباسي وهو يحدق بنظره الى كربلاء وزواياها في منتصف القرن العشرين، وتتدحرج كرة العناوين على سلّم الفهرس على النحو التالي: مقدمة شعبة إحياء التراث، المقدمة، كربلاء في سطور، حدود مدينة كربلاء التقريبية في عام 1366هـ (1947م)، حدود مدينة كربلاء التقريبية في عام 1391هـ (1971م)، مجتمعٌ محافظ، اللغة، اللهجة، الإكتفاء الذاتي، الحركة الإقتصادية، الفقر والغنى، العوائل والأسر، خطاب الإحترام، الرجال، النساء، الأطفال، مقام الكبير، الترحّم، موقع الغريب، التعليم، الحوزة، السياسة، النشاط والضمور، الربيع والخريف، الصيف، الشتاء، تغير البلاد، الخاتمة، بين العتاب والحنين.
ربما تنطوي عدد صفحات الكتيب مقارنة بعناوين الفهرس على مفاجئة، فعدد السنين التي قضاها الكاتب بين أزقة مدينة الحسين (ع) يفترض أن تنتج كتابا أوسع، ولكن عنصر المفاجئة سيزول إذا ما عرفنا أن باب "أضواء على مدينة الحسين" فحوى هذه المشاهدات وغيرها يضم أكثر من 30 مجلدًا مخطوطا طبع منها حتى الآن مجلدان ضمن إصدارات دائرة المعارف الحسينية، إلى جانب مذكراته المخطوطة في مجلدات عدة، وبالتالي فإن هذه الصفحات إنما هي أشعة من شمس مضيئة، وعلى قلتها يستطيع القارئ أن يدرك الكثير من القضايا التي عاشتها مدينة الحسين(ع) في العهدين الملكي والجمهوري.
ومن أولويات التوثيق لمدينة مسقط الرأس هو حبها على ما فيها، وكيف والمدينة حاضرة علمية تقدست بالحسين(ع) وأخيه العباس(ع) وخيرة شهداء البشر، وهذا الحب يطلعنا الكرباسي على بعض مكنوناته في المقدمة بقوله: (كربلاء تلك المدينة التي أحببتها فاحتضنتني، وواسيتها فغذتني، فكان الحب بيني وبينها متبادلًا، وكنت أشعر أنني جزء منها وهي جزء منِّي، فكنت ولازلت أحنُّ إلى تلك النخيل والأشجار وإلى تلك الأبواب والجدران التي كانت تضم الأقرباء والأصدقاء والزملاء والأدباء والعلماء والشعراء وأهل الصفاء والولاء، وإلى تلك الحوانيت والطرقات، حيث كانت تسلّم عليَّ وأسلِّم عليها ولو بالغمز واللمز)، ويسرح المشاهد الهائم في هواها محدثا عن طينته المعجونة بترابها: (خُلقت على أرضها بجوار مرقد سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين (ع) وأخيه أبي الفضل العباس (ع) روحي لهما الفداء، وجُبلت من تربتها ومائها، وتنشقتُ الحرية والمعرفة والأدب والأخلاق عبر هوائها، فكانت سخية كريمة جادت بكل ما لديها من الأمور المعنوية والمادية).
يا ترى في مثل هذه الأجواء الحميمية كيف تكون المدينة بالنسبة الى من ولد فيها؟ هذا ما يخبرنا به المشاهد: (هي أمّي الحنونة وأبي الحريص عليّ، وهي الصديقة التي لا أستغني عنها في الشدائد والمحن، ولازلت أحمل معي تربتها أسجد عليها لله شاكرًا، تمنحني الطمأنينة متى ما حدث لي حادث، فإن كنت في عُسر التجأت إلى الثاوين فيها حسين وعباس وشهداء كرام ليشفعوا لي إلى خالقي ليرفع عنّي المكاره والمحن) فكربلاء بالنسبة الى الكرباسي وكل من علّق بأطراف حبالها أنامل الولاء: (قبلتي وبوصلتي التي ترشدني نحو الصواب وإلى ما أصبو إليه).
ثقافات وأمور أخرى
تشتهر بعض المدن العالمية بوصفها مدينة ثقافات ولغات مختلفة، ولا تخرج مدينة كربلاء عن هذا الوصف حيث تستقبل الزائرين من كل الثقافات ولغات العالم، وهذا الخاصية وفّرت لسكانها قدرة التعرف على اللغات والتحدث بها، ولاسيما للذين هم على التماس مباشر مع الزائرين من كسبة وعاملين وموظفين وخدمة في العتبات المقدسة وأمثالهم، ولذلك فليس من الغريب أن تجد من يتحدث اللغة الفارسية أو الأردوية، وهنا يتذكر الكرباسي بأنًّ: (الكربلائي.. يفضل أن يتكلم بأكثر من لغة، فاللغة الإجتماعية السائدة كانت اللغة العربية بلا خلاف، فكثير من العوائل كانت لغة البيت عندهم هي اللغة الفارسية باللهجة الكربلائية والتي بالطبع تختلف عن اللهجة الإيرانية، وحتى العرب الأقحاح آنذاك كانوا يعتبرون اللغة الفارسية لغة ناعمة يستخدمونها في مواقع النعومة، وربما الغزل أيضا ولو باستخدام بعض مفرداتها، بينما بعض المدن المجاورة كالنجف الأشرف مثلا كان الفرس المقيمون فيها يلتزمون التحدث باللغة العربية وباللهجة المحلية، ولعل ذلك ناتج عن كثرة ارتباط العوائل الكربلائية بالإيرانيين القادمين لزيارة مرقد أبي عبد الله عليه السلام وكثرة المقيمين منهم بجواره).
هذا الواقع الناتج عن التعامل اليوم مع الزائرين من بلدان مختلفة، حرّك عجلة الإقتصاد بخاصة كما شاهد الكرباسي أن: (المدينة لها مركزيتها من حيث أنها مدينة مقدسة ومهوى ملايين الزائرين من خارج العراق وداخله، ومناسباتها الأسبوعية تكمن بيومي الخميس والجمعة، مضافين الى المناسبات الدينية والزيارات الموسمية التي قد تبلغ عشرين مناسبة سنويًا، فإن حركة السوق كانت رائجة والمنتوجات المحلية كانت مطلوبة، وتباع من خلال هذه الأسواق، وإلى جانب ذلك فإن الأعمال اليدوية كانت قائمة على قدم وساق، ولم أجد بيتًا وإن كان من أهل الثراء أو من الأعيان والعلماء إلا وأعمال النسيج والخياطة وصناعة الترب والسبح والمهافيف والحياكة وما إلى ذلك قائمة فيه، وربما اختلفت صورتها من بيت إلى آخر بحيث في العادة أن أرباب الثراء يقومون بسد حاجاتهم بالإضافة الى الترفيه مثل الحياكة).
بل (وكان التعليم على مثل هذه الأعمال ضرورة بيتية، وكمالًا للمرأة، وتعد متعلّمة المهن المذكورة أكثر إقبالا على الزواج، وأما العوائل الفقيرة فإنها كانت تعمل للآخرين وتسترزق بها، ومن هنا كانت البيوت كلها معامل ومصانع)، ولذا فإن تعلم المرأة الكربلائية وعموم المرأة العراقية للشؤون المنزلية قبل الألفية الثالثة، كان هو الرائج وهذا له علاقة مباشرة بالزواج المبكر الذي كان سمة العهد القريب قبل أن تدخل الأفكار المضادة الواردة من الشرق والغرب تحت مدعى الثقافة والحضارة والمدنية، من هنا كما في مشاهدات الكرباسي: (وأما البنات فكن يتزوجن في أول محيضهن، وكان عليهن تعلم واجباتهن في بيت الوالدين كمقدمة لبيت الزوجية).
وبشكل عام رغم الفقر وقلة ذات اليد لدى بعض العوائل والأسر، فإن الإكتفاء الذاتي هو سمة البيت العراقي فيما مضى، ولاسيما وأن الشكر في السراء والضراء والقناعة والرضا والحمد على كل حال من الخصال التي كان يتصف بها البيت الكربلائي بخاصة والعراقي بعامة، وما أكرم الـ (الكان) لو بقي الحال على ما كان عليه، ولكن القناعة كنز لا يفنى وبدونها يفنى كل جميل، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، من هنا فإن المحقق الكرباسي عندما عاد الى مسقط رأسه عام 2003م بعد عقود من الغيبة رأى ما لا يسر الفؤاد: (وجدت الأمر مختلفًا تمامًا في مدينتي بعد أن عدتُّ إليها بعد نحو خمس وثلاثين سنة، وذلك بسقوط النظام الذي غيّر وجه البلاد والعباد، فأصبح وجه العراق مغبرًّا كئيبًا، ورأيت النفوس قد تغيّرت والمعالم قد تهدّمت، فخابت عند ذلك الآمال، وتناقصت الأقوال بالأعمال).
جماليات وضبابيات
ومن جماليات المدينة المقدسة فيما مضى من السنوات أنه: (اعتاد الرجال – الكسبة منهم والتجار- على فتح محلاتهم صباحًا بعد طلوع الشمس... ومنهم من كان يبدأ يومه بزيارة المرقدين، وآخرون يذهبون للزيارة بعد الإنتهاء من العمل، والغالب عليهم أنهم يستهلون أعمالهم بقراءة القرآن والدعاء ثم تنظيف واجهات محلاتهم أو متاجرهم).
بيد أن هذه الخصلة الجميلة استبدلها البعض بوسائل الإتصال الحديثة، وتم استخدامها في بعض الأحيان في غير محلها، أما المحقق الكرباسي فإنه ظل حتى يومنا هذا يعمل بها، وجعل المحيطين به ممن يعملون معه يستنون بسنة الأجداد حيث يبدأون يومهم بتلاوة القرآن.
في الواقع أن قراءة ما شاهده المحقق الكرباسي خلال وجوده في العراق، يضع المرء بين عهدين كثر في أوله ما يسر النفس وكثر في ثانيه ما يغمها ويحزنها، ومع هذه الضبابية التي لاحت في ناظري كل مهاجر عراقي آب إلى وطنه يبحث عن الحضن الدافئ في وادي الرافدين بعد سنوات عجاف من الهجرة القسرية كان بعضهم لا يجد ما يعينه على شراء حليب يطعم به وليده، ومع هذا: (لكن الأمل كبير، فهو نعم المولى ونعم النصير)، كما يؤكد صاحب الكتاب الذي أنهى مشاهداتها بقصيدتين تلخص الرائية الأولى حاله في غربته:
أرى الناس في حيص وبيص فلا أدري... وإن كنت في خلدي محيطًا بما يجري
ورغم هذا يعلن وفاءه للمدينة المقدسة التي أفاءت عليه بالخير:
ولكنني مهما فعلتم أرى نفسي... لأرضي مدينًا من نشوئي إلى قبري
من هنا يظل يؤكد:
بلادي عزيزٌ تُربها نشأتي فيها... وفيٌّ لها قلبي حنينًا مدى الدهر
والسر في هذا كما يفصح عنه:
جواري لسبط المصطفى قد سقاني جر... عةً فجَّرت في الرمل دالية النَّهر
ولهذا يدعو الناس:
فأوفوا معي في الكيل والحلِّ عن صدقٍ... وكونوا على نهجٍ معي وافر الخيرِ
وتفسّر القافية الثانية حنينه إلى مسقط الرأس، فالمرء مهما شرّق أو غرّب فإن مهوى قلبه بلدته وكما يقول الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي المتوفى سنة 845م:
كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى... وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ
ولهذا عندما حط المحقق الكرباسي رحله عند شاطئ الفرات سنة 2003م، أنشأ يقول:
إلى مثوى حسين شهيدًا بالعراق... مسيري بعد ردحٍ مرير بالفراق
وعندما وصل مدينته لم يجدها كما كانت، إذ:
أخذت الآن أُزجي خيالًا في بلادي... غريبًا باحثًأ عن أخ أو عن رفاقِ
ثم يظل يبحث عن الأمل التائه فيها، لكنه لا يفقده:
نهاري حالكٌ لو يئسنا من رجاء... هي الآمال والروحُ في بثِّ السماقِ
بذا تُحيى وفيه عَبَرنا حالكاتٍ... بلا مَيْنٍ ولكن وفاءٌ للصِّداق.
مشاهدات غير قليلة يسطرها المحقق الكرباسي عن مدينة نابضة بالحياة، وقد كُتب عن كربلاء الكثير، بقي القليل وضاع منه الكثير، وهذا القليل تعرض هو الآخر للإهمال، وقد أحسنت إدارة العتبة الحسينية صنعًا عندما أنشأت "شعبة إحياء التراث الثقافي والديني"، وحسب تعبير المسؤول عنها الإستاذ إحسان خضير عباس في بيان عمل الشعبة كما جاء في التعريف بالشعبة: (إن الغرض على المستوى البعيد ليس إحياء التراث الثقافي فحسب، بل محاولة نشر الآثار التي اندثرت في مدينة كربلاء على مرّ السنين والتي باتت الحاجة إلى إحيائها ماسّة في يومنا هذا، لأنها تعكس مدى التطور العلمي والثقافي لتلك المدينة وأثرها في نشر الوعي في تلك المنطقة)، وهو مشروع يمثل نبتة طيبة لأحياء التراث وتذكير الأبناء والأجيال بما خطه الآباء وتركه الأجداد.
اضف تعليق