تحصد قطر اليوم ما زرعته عبر ما يزيد عن عشرين عام من السياسات التي لا يمكن وصفها على الاطلاق بالحكيمة، فعبر العقدين الماضيين اختارت الامارة لعب الدور الوظيفي المرسوم لها وانتهجت سياسة اللعب على التناقضات؛ بداية من التناقضات داخل العائلة الحاكمة مروراً بالتناقضات داخل مجلس التعاون الخليجي وصولاً إلى التناقضات داخل منطقة الشرق الأوسط وحتى التناقضات في السياسة الدولية.

فمنذ أن اعتلى الأمير السابق حمد سدة الحكم بانقلاب أبيض على أبيه في سابقة تتنافى مع العرف السائد في منطقة الخليج بدأت السياسة القطرية تلك في الظهور؛ حيث حدث الانقسام بين أفراد الأسرة الحاكمة من أبناء الأمير المعزول بين مؤيد ومعارض لما حدث، لكن النظام الجديد الذي بدا فاقداً لأي شرعية محلية أو خليجية أدرك على ما يبدو أن كلمة السر في بقاءه واستمراره لم تعد الشرعية التي لم يعد بالإمكان الحصول عليها فأراد متوهماً الاستعاضة عنها بدور مؤثر في القضايا الخارجية للمنطقة والاقليم.

ورغم أن الامارة لا تمتلك القوة الصلبة للعب هذا الدور إلا أنها أدركت باكراً أن بإمكانها استثمار قدراتها الاقتصادية الضخمة في إيجاد قوة مرنة أو ناعمة للإمارة يكون بمقدورها تعويض إنعدام تلك الصلبة وهو ما كان، فتحولت الدوحة منذ العام 1995 وحتى مطلع الألفية الثانية لحجيج جُل المثقفين والمفكرين العرب والعجم، وحظى غالبيتهم بلقاء أميري واستخدمت قناة الجزيرة كواجهة لتحويل الامارة كبؤرة إشعاع ثقافي ولكن بالطبع نحو الخارج، ولعبت الجزيرة في حينه الدور بحرفية وموضوعية منقطعة النظير وتحولت لمنتدى ثقافي وسياسي لكل المفكرين والمعارضين والمضطهدين في العالم العربي الذين وجدوا في القناة منبراً لإيصال أصواتهم لشعوبهم وللعالم، وبما أن قطر ليست واحة للديمقراطية أو التعددية الثقافية الليبرالية وهي ليست الهايد بارك؛ عليه فإن تواجد أولئك المعارضين ليصل صوتهم لشعوبهم والعالم فقط؛ وتمكنت قطر نسج شبكة من العلاقات الوثيقة المدعمة مالياً وإعلامياً بمعظم حركات المعارضة في العالم العربي وفي مقدمتها حركات الاسلام السياسي التي تعد نظيراً أو مرادفا طبيعيا للأنظمة العربية من حيث الفكر والاستراتيجية.

إن قطر التي حافظت على قاعدة العديد وسفارة طالبان ومكتب حماس السياسي ومكتب التمثيل الاسرائيلي وسفارة إيران وسفارة المملكة السعودية عبر خمسة عشر عام استطاعت أن تحقق بالقوة الناعمة تأثيراً أكبر مما كان يمكن أن تحققه القوة الصلبة عبر المال وقناة الجزيرة وما وراءها، وبحلول العام 2011 وهبوب رياح الربيع العربي لم يكن أحد في هذا العالم قادراً على التأثير في اتجاه رياحه كما كانت قطر بقناة الجزيرة.

وهنا تحولت التناقضات الاقليمية إلى صراعات دموية سقطت خلالها أنظمة ودول بأكملها وهو ما أدى إلى تحويل الدور القطري بفعل القصور الذاتي نتيجة تسارع الأحداث من مرحلة التأثير إلى مرحلة الفاعل والموجه في أحيان كثيرة خاصة في الدول التي عصفت بها رياح الربيع العربي، ولم يكن أمام قطر إلا خياران الأول تغيير الاستراتيجية القديمة والعودة إلى الحجم الطبيعي لها وتحمل العواقب أو الانتقال من الدور الوظيفي التأثيري إلى الدور الفاعل بكل ما تحويه هذ المرحلة من مخاطر نظرا لتواجد لاعبين إقليميين ودوليين كبار في ميدان الفعل الذي يتطلب القوة الصلبة، ولا تبدو القوة الناعمة فيه ذي تأثير البتة.

وكان الخيار الثاني هذا خيار حكام الامارة القاتل خاصة مع حسم القوة الصلبة في دول الربيع العربي الأمور لصالحها، وهو ما أدى إلى خفض حدة التناقض في السياسات داخل الاقليم بسبب المخاطر الاستراتيجية التي باتت تحدق بالجميع عقب هدوء رياح الربيع العربي التي خلفت دمارا وجلبت التطرف بأبشع صوره الارهابية للمنطقة ومن حولها، لم تعد سياسة التأثير عبر اللعب على التناقضات ذات جدوى خاصة وأن الدوحة عبر ما يزيد عن عشرين عام لم تفلح في جسر التناقض بين أي طرفين كانت وسيط بينهما لأنها في واقع الأمر لم ترغب في حل أي تناقض بل تعميقه؛ فبقدر تعميق التناقض يزيد التأثير ويتسع الدور القطري والأزمة اليمنية وملف المصالحة الفلسطينية خير دليل، لكن التناقضات اليوم بدأت في التلاشي شيئا فشيئا داخل الاقليم وأصبح القرار اليوم للقوة الصلبة الاقليمية والدولية.

اليوم تجني قطر نتاج سياساتها ليس أكثر، فسياساتها لم تنجح في بناء تحالفات استراتيجية إقليمية أو حتى دولية سليمة أو منطقية فقاعدة العديد اليوم ترفض مكتب طالبان ومكتب التمثيل الاسرائيلي غير راغب في مجاورة مكتب حماس السياسي، وإما سفارة السعودية أو سفارة ايران فقطر التي لم تكن معنية الا في زيادة تلك التناقضات وإطالة عمرها بين الفرقاء تجد نفسها اليوم أمام إقليم موحد ضدها وحلفاء دوليين يصفونها بداعمة للارهاب.

إنها ساعة الحقيقة فإما أن تلبي الامارة مطالب الإقليم والتي تبنتها قوى عظمى وإما أن تبقى على سياستها وتتحمل العواقب، وفي كلا الحالتين وبعد إنتهاء هذه الأزمة لن تكون قطر هي التي عرفها العالم خلال العقدين الماضيين.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية

[email protected]

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق