بين الأنا والفشل علاقة وطيدة جرّبها كل من يعاني مرض حب النفس، فأن تحب نفسك الى حد التضخّم تلك هي المشكلة، وأن يتجسد هذا الحب في صورة من صور التكبّر والخيلاء، فتلك هي الكارثة، بالطبع نحن لا نبالغ ولا نغالي ولا نجعل من (الحباية كباية) كما يقول المثل الدارج، فواقع الحال يُظهر كثيرا من هؤلاء (الأنانيون) الساقطون في فخ الغرور، الماشون في الأرض مرحاً، هؤلاء الذين لا يبصرون من الدنيا إلا ما يزيدهم ترفّعا وليس رفعةً.
في شرح معنى الخُيَلاءُ كما يقول العارفون والمختصون، أنها مفردة بمثابة اسم معناه التكبُّر والعُجْب، ويُقال يمشي الخيلاء، أي أنه يمشي مشية المتكبِّر المُعجَب بنفسه لدرجة أنه لا يُبصر في الحياة سواه، وقيل يختال الشّخص أي يتكبّر ويتصرَّف بطريقة تدل على التَّباهي، وقد جاء في النص القرآني: إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. (سورة لقمان 18).
وفي علم نفس الأنا وتعني (بالإنجليزية Ego psychology) هو مدرسة التحليل النفسي المبنية على النظرية التركيبية للنفس لفرويد[2] ونموذج الهو، والأنا والأنا العليا ويُطلق عليه اسم المدرسة الأمريكية حيث تؤكد هذه المدرسة على أن نمو الشخصية يمتد على مدى العمر كله. وبالمثل لا تنكر الصراعات النفسية التي تعكس رغبات الهو ودفعاته، إلا أنها تقر أن دوافع الأنا مثل التوافق والكفاءة والهوية والحميمية والاكتمال لا تقل أهمية، ويعتبر إريك إريكسون وآنا فرويد وهاينز هارتمان ولويس لوينشتاين من رواد هذه المدرسة.
والحال المؤكد أن الفرد ينشط ويتفاعل مع العالم الخارجي وكذلك يستجيب لقوى داخلية، ويستخدم العديد من المحللين النفسيين النظرية التركيبية للنفس، والتي تسمى الأنا لشرح كيفية إتمام ذلك من خلال مختلف وظائف الأنا، حيث يُركز أتباع علم نفس الأنا على تطور الأنا العادية والمرضية، وإدارتها لدوافع ليـبيدية وعدوانية، وطريقة تكيفها مع الواقع.
نلاحظ أن هناك علاقة التناقض بين الأنا والآخر بدلاً من التصافي، وثمة إشكال وعجرفة بين التكبّر والأخلاق، فمن المحال أن نعثر على متعال يتحلى بالأخلاق ويؤمن بالقيم، ولعل من أصعب الأمور أن يسيطر المرء على (أناه)، فيجعل منها مستقيمة هادئة حكيمة، وفي نفس الوقت تبقى تحافظ على أنفتها ورفعتها وكرامتها، صحيح أن الأفضل أن لا تتشبث بحب الأنا كما أنت مطالَب، لكن الصحيح أيضا أن لا تُصبح ضعيفا ذليلا، فثمة خيط بين الرفعة والترفّع، الأولى مطلوبة في شخصية الإنسان لأنها تقدم النموذج الواثق القوي المتوازن، أما الترفّع بمعنى التكبّر فهو نقيض الرفعة بالضبط.
هناك قول معبّر وجميل للسيد المرجع صادق الحسيني الشيرازي يفسّر هذا النوع من الإشكال في العلاقة التي قد تكون أحيانا متأزمة بين الفرد والجمع: (ليس المقصود من التخلّي عن (الأنا) التذلّل للناس، كما ليس المقصود التكبّر عليهم، بل ألاّ يكون عملك لذاتك وإنما يكون لله وحده. المصدر: كتاب من عبق المرجعية).
هذا التفسير الدقيق لسماحة المرجع لا يدعو للتخلي عن (الأنا) حين يأتي ذلك كسبيل للذل، وفي المقابل لا يُقبَل بدعوى الكبرياء أن يترفع الفرد على محيطه وأهله وناسه، وحين نحسم الأمر ونجعل كل عمل نؤديه تقبله الذات الإلهية، فهذا يجعل منه عملا مفيدا للأنا وللآخر، وتلك هي القمة في المطلوب، فما أعظم الإنسان حين يحب نفسه و (أناه) بمقدار ما يحب الآخرين، فلا استحالة في هذا، يصل الكائن البشري الى هذه القمة، وهو يحسَّن على الدوام من علاقاته بالجمع، فأنت تضرب في الأرض ليس لوحدك، أنت مع جمع من البشر يسعون ويكدّون مثلك، وسوف يحدث ذلك التنافس الذي يدفع الى المواجهة، ويحدث التضارب، والاحتكاك، ولكن أنت ستبقى مطالَباً بمعاملة الآخر بالأخلاق الإسلامية والقيم التي تنتظم فيها علاقات المجتمع، هل أنت قادر على ذلك؟؟ ذلك هو الاختبار الحاسم.
يركز السيد المرجع الشيرازي على نمط واضح من العلاقات الجميلة بين الناس، فيقول: (المطلوب من كل واحد منّا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والوقار والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم. المصدر السابق نفسه).
كل هذه الأقوال تأتي كحماية للبشر من فخ الخيلاء، فذلك الذي يمشي في الأرض مرحا، لا يعرف أنه يتقدم بعجالة ليقف على جرف الهاوية، حيث الأنا وهي مولعة بنفسها ستدفع به صوبَ الفخ، وأي نوع من الفخاخ هو؟، إنه فخ (الخُيَلاء)، والغرور الذي يذهب بصاحبه الى السقوط، حين يجزم بأنه العارف الأقدر، والفاهم الأوفر علما ومعرفة، وهو الذي لا يباريه عقل ما، هكذا يتصوّر (المتعالي) نفسه، فكل شيء ينتمي إليه لا يجوز المساس به، ولا يصح النقاش حوله، حتى يصل مرتبة جنون العظمة.
وهذه المرتبة من الهيام الذاتي، هي التي ستأخذ على عاتقها تدمير هذه (الأنا) المريضة التي لم تستطع أن تحمي نفسها من غدر الخيلاء وفخ التكبّر، فتحين لحظة السقوط، وتُداس تلك الأنا بأخطائها الجسام، فالتاريخ يحكي بصوته العالي، تلك الحكايات التي يحفظها عن ظهر قلب، لأولئك العتاة الذين أعماهم الغرور، وزيّن لهم الجهل طيشهم، فما انتبهوا الى الحفر العميقة المظلمة التي تتربص بأقدامهم، إنهم سوف يسقطون في إحداهن وفعلا يحدث ذلك السقوط المدوّي للأنا التي تحتمي جيدا من فخ الخُيَلاء.
أما كيف تكون الحماية، فإنها ببساطة مخالفة النفس، خالف هواك، وروّض قناعتك القارّة، وتصدَّ للثوابت الخاطئة التي تفرضها عليك (الأنا)، فهي في يوم ما جعلتك لا ترغب بشيء رغم اعتقادك بصوابه، هكذا يمكن أن تسيطر (الأنا) وتعمي بصيرة صاحبها، فتمنعه عن رؤية الصواب، وتحصر بصيرته في حدود (أناه) فقط، هنا يندفع البشر بقوة نحو الفخ مغمض العينين لينتهي الأمر بالسقوط، لهذا أنت دائما مطالَب أن تراقب نفسك، وتحب الناس، وتعالج الخيلاء بالتواضع، فالغرور والتكبّر له داء مجرَّب.
هذا الداء الشافي، يحدده السيد المرجع الشيرازي في كلمات معدودات: (حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له برحابة صدر. المصدر نفسه).
اضف تعليق