q

لكل أمة من الأمم أسلوبها المعماري الذي يميز بناء مدنها عن مدن وبلدان الأمم الأخرى، وربما يتغير التصميم العمراني من عصر الى آخر ومن حضارة الى أخرى، ولكن يذهب المختصون الى أن الأسلوب المعماري لأمة ما يمثل هويتها الجمالية في البناء، والتي لا يمكن التنازل عنها أو تجاهلها أو التفريط بها تحت شتى الذرائع، كون تلك العمارة تتسم بتصاميم وخطوط ودوائر ومنحنيات وأشكال هندسية لها خصوصية تميزها عن سواها من الأمم.

ولعل المقصود بالعمارة الإسلامية حسبما يذهب مهتمون، هي تلك الخصائص البنائية التي استعملها المسلمون لتكون هوية لهم، وقد نشأت تلك العمارة بفضل المسلمين وذلك في المناطق التي وصلها كشبه جزيرة العرب والعراق ومصر وبلاد الشام والمغرب العربي وتركيا وإيران وخراسان وبلاد ما وراء النهر والسند بالإضافة إلى المناطق التي حكمها المسلمون لمدد طويلة مثل الأندلس (أسبانيا حاليا) والهند، وتأثرت خصائص العمارة الإسلامية وصفاتها بشكل كبير بالدين الإسلامي والنهضة العلمية التي تبعته، وتختلف من منطقة لأخرى تبعا للطقس وللإرث المعماري والحضاري السابق في المنطقة، حيث ينتشر الصحن المفتوح في الشام والعراق والجزيرة العربية بينما اختفى في تركيا نتيجة للجو البارد وفي اليمن بسبب الإرث المعماري. وكذلك نرى تطور الشكل والوظيفة عبر الزمن وبتغير الظروف السياسية والمعيشية والثقافية للسكان، وعند بداية ظهور الإسلام خصص النبي محمد (ص) مبنى خاص للتعبد وهو المسجد، وانتشرت المساجد في عهد النبي حتى شملت كل أجزاء الجزيرة العربية، وازداد انتشارها بفضل الفتوحات الإسلامية، وكانت العمارة مستمدة من فنون العمارة السائدة في ذلك العصر.

أما التلوث البصري (Visual pollution) فهو مصطلح يطلق على العناصر البصرية غير الجذابة، وهي المناظر الطبيعية، أو أي شيء آخر يريد الشخص أن لا ينظر إليها. وكأمثلة على ذلك لوحات سيئة، والقمامة، وبعض الجدران، والمباني غير المدروسة، والعمارة غير المنظمة، والعلامات والأعشاب والإعلانات العشوائية، أو بمعنى آخر هو تشويه لأي منظر تقع عليه عين الإنسان يحس عند النظر إليه بعدم ارتياح نفسي، ويمكننا وصفه أيضاً بأنه نوعاً من أنواع انعدام التذوق الفني، أو اختفاء الصورة الجمالية لكل شيء يحيط بنا من أبنية إلى طرقات أو أرصفة وشوارع وساحات عامة وغيرها.

ولو أننا أردنا أن نقدم بعض الأمثلة عن التلوث البصري، فإنها تكمن في سوء التخطيط العمراني لبعض الأبنية والمدن سواء من حيث الفراغات أو من حيث شكل بنائها وأعمدة الإنارة في الشوارع ذات الارتفاعات العالية التي لا تتناسب مع الشوارع. كذلك الحال مع الانتشار العشوائي لصناديق القمامة بأشكالها التي تبعث على التشاؤم، يُضاف الى ذلك عبثية الطلاء أو دهان واجهات المباني واختلافها عن بعضها بشكل صارخ.

وأحيانا تشترك عبثية أجهزة التكييف الظاهرة في الواجهات بصورة عشوائية ورديئة، وكذا الحال مع انتشار المساكن في مناطق المقابر، والمباني المهدمة وسط العمارات الشاهقة، واللافتات ولوحات الإعلانات المعلقة في الشوارع بألوانها المتضاربة ومضامينها التي قد تسيء أحيانا الى الذائقة العامة بصورها وألفاظها، وما يعنينا في موضوعنا هذا هو الفقرة الأخيرة من هذه الكلمة، ونعني بها انتشار اللافتات والصور والإعلانات ذات المضامين التي ما أنزل الله بها من سلطان، حيث لا تخضع لتشذيب من أي نوع كان.

هكذا بات حال مدن العراق بشوارعها وساحاتها وحتى حدائقها، فقد ظهر قائم مقام أحد مراكز المدن المهمة، وقال بالحرف الواحد، لقد نشر أحد الأشخاص إعلانا في أحد الشوارع يظهر فيه صورة أبيه، ومكتوب فيه جملة (أقدم صورة أبي هدية لكم)، الى هذا الحد بلغت العشوائية وفقدان الذوق، واحترام أذواق الناس وأبصارهم، فأنت لا تعرض صورة أبيك في بيتك الخاص وإنما تضعه في لافتة وإعلان في الشارع العام الذي تعود ملكيته للجميع، لتعلن لهم بأنك تهديهم صورة أبيك، من هذا النوع نجد الكثير، ما يعني إساءات متتابعة للبصر، لتتشكل بالنتيجة ما يمكن أن نطلق عليها بظاهرة التلوث البشري.

ولو عرف الأشخاص الذين يعبثون بأشكال الساحات والجدران والشوارع مدى الإساءة التي يلحقونها بالتصميم المعماري لمدنهم، ربما لا يقدموا على مثل هذه الأفعال غير المنضبطة، فقد بات الشارع مكانا لعرض كل ما يريده الأشخاص والجماعات والعشائر، وحتى الجهات المتنفذة في السلطة، كالأحزاب والكتل السياسية والشخصيات التي تنضم إليها، وإذا كانت السلطة نفسها لا تعبأ بالعمارة الإسلامية ولا شكل المدينة ولا تصميمها، ولا تعنيها الإساءات التي تُلحَق بها، فما بال الآخرين الذين لا يردعهم مانع ذاتي ولا خارجي، خصوصا أننا في العراق نفتقر لقانون حازم ينظّم حالات النشر في الأماكن العامة، ويحمي الشكل المعماري للمدن من الانتهاك.

أما حين يذهب بنا الكلام الى الأحياء السكنية العشوائية، وشوارعها الضيقة المتداخلة، وأكوام القمامة المنتشرة في الأزقة، فإننا في الحقيقة سوف نشاهد تلويثا بصريا من الدرجة القصوى، ما ينعكس ذلك على المزاج العام ويؤثر على نفسية الفرد ويجعله في حالة من الإرباك والعشوائية وعدم التركيز، مع الشعور بنوع من الفوضى في الألوان والصور والأشكال والبنايات والساحات والقمامة والحفر التي تملأ الشوارع، مع غياب التناسق في التصاميم والألوان، ما يؤدي بالنتيجة الى إصابة العين بتلوث بصري حاد ينعكس على التفكير والمزاج ويصيب النفس بنوع من الكآبة والضمور والتذمر والسخط.

هل ثمة معالجات، على الأقل للحفاظ على المظهر اللائق للمدن، لكي تحتفظ بهويتها التي تنسبها الى العمارة الإسلامية، وحين السؤال لماذا هذه الانفلات في النشر الإعلاني والصور واللافتات والكلمات والبناء العشوائي والتجاوز على الأرصفة، ولماذا لا يفكر أحد بما ينعكس من أضرار نفسية وسلوكية من هذه الفوضى، فلا يوجد جواب شاف، ويبقى القانون الضعيف خلف ظهور الجميع آمرين ومأمورين، ويبقى التلوث البصري حتى هذه اللحظة سيد الموقف.

اضف تعليق