قبل عشرات السنين، لم تظهر بعد شبكة الإنترنيت ولا مواقع التواصل ووسائل الاتصال الحديثة، كان الناس يعيشون بألفة وعلاقات إنسانية فريدة من نوعها، كأنهم جسد واحد وروح واحدة وعقل واحد وقلب واحد، أذكر أننا كنا نجتمع في غرفة صغيرة، أكثر من عشرة أجساد، يتوسطنا (القصة خون)، وهو الشخص الذي يقص علينا القصص الليلية، وغالبا ما يكون أبي (رحمه الله)، يحكي لنا قصصا عجيبة غريبة، غاية في السحر والجمال والخيال المتدفق، كلها عِبَر ومواقف إنسانية هائلة، تنمي فينا الحس الإنساني والقيم النبيلة وخصوصا الشجاعة والرحمة، أحيانا كنتُ أغفو لأنني طفل لم يبلغ أشدّه، وفي اليوم التالي أتوسّل أمي أو أخي أو حتى أبي نفسه كي يخبرني بنهاية الحكاية.
وقبل أن أبلغ العاشرة، تضاعف إحساسي بالمعنى الذي تتركه الكلمة في نفسي، حتى أنني في ذلك العمر المبكّر، كنتُ أتساءل في سرّي كيف يمكن أن ينعكس ذلك المعنى العجيب على وضعي النفسي ومشاعري، وغالبا ما كنت أتساءل بصوت عال، عمّا تتركه تلك الكلمات في أعماقنا، غريب حقا ذلك السحر الذي تتركه المفردات في عقولنا ونفوسنا، فأيةُ قدرة تمتلكها كلمة صغيرة لتحطم قلب الطفل والكبير معا؟، وما الذي يقف وراء كلمات قليلة يمكنها أن تجعل من إنسان ما، ضعيفا أو قويا، نشيطا أو خاملا، متفائلا أو متشائما؟؟.
لقد أيقنتُ في وقت مبكر أنه لا يُشترَط أن تكون حاجة الإنسان مادية، ولا يتوقف الدعم على منح الأموال للآخرين لكي نعالج ما ينقصهم، فربما نمنح إنسانا كنوزا من الذهب لكنه يبقى يشعر بحاجة الى شيء آخر، وهكذا يبقى هذا الإنسان وأمثاله في حالة من الظمأ والشعور بالنقص، تعجز عن معالجتها كنوز وأموال كبيرة، وحتما هناك طرق أخرى لمعالجة تلك النواقص، والأغرب أنها قد تكون غير مكلفة، إنه العلاج بالكلمات النابعة من قلب صادق.
لم أكن أعرف بعد أن للكلمة وقْعا يفوق ما تتركه الأموال في نفوسنا، فربَّ كلمات قليلة تعادل كنوزا من الأموال، يبدو هذا الرأي مبالغا به، ولكن على المستوى الشخصي جرّبتُ ما يمكن أن تعود به الكلمات القليلة المشجِّعة من فوائد، تفوق فوائد الأموال، كانت عائلتي ولا أقصد أسرتي بالتحديد، وإنما العديد من أفراد أقاربي، عندما نجتمع ونستدير حول أبي لنستمع حكاية الليلة، كان هناك من الأفراد من يحاول أن يلحق الضرر بي، فيبادروا بوصفي بصفات مسيئة كفيلة بتدمير أي شخص حتى لو كان كبيرا في السن، فما بالك عندما توجَّه الى طفل صغير لكنه بالغ الحساسية، بالطبع لم يكن أولئك الذين يطلقون الصفات المسيئة يدركون حجم الألم الذي يتركونه في نفس الطفل، بسبب جهلهم أو قلة ذكائهم أو انعدام حساسيتهم، الوحيد الذي كان يعالج الألم هو أبي، عندما يقاطع تلك الأوصاف، بصفات عظيمة يلصقها بشخصي تجعلني أحلّق عاليا في سماء الثقة والاعتداد بالنفس، والشعور بالقوة والفخر.
واصل دعمكَ للآخرين
اليوم دخلتُ في مرحلة الكهولة، وخضتُ تجارب لا تحصى في الحياة، وأصبحت على يقين أكبر بأن الدعم المعنوي يفوق في تأثيره الدعم المادي، وغالبا ما أعود الى مرحلة الطفولة، أستذكر ذلك التجمع العائلي الحميم، وتلك القصص والحكايات التي لم تكن تخلو قط من الإمتاع المتواصل والفائدة الأخلاقية الراسخة، وأحاول أن أعقد مقارنة بين ما مضى وما جاء، ولعلنا نجد في المرحلتين ما نرغب به وما نكرهه، ولكن لا أظن أننا سوف نحصل مجددا على ذلك الدفء الإنساني وتلك الألفة التي لا يمكن شراءها بثمن.
كنت أفكر في تلك الأجواء وأنا أسعى الى صاحب الدكان الصغير، كي اشتري منه الحبوب والتوابل كما أفعل ذلك يوميا منذ شهور، رأيت الرجل البسيط نفسه، يجلس في وسط دكانه، يسعل كعادته، جسده بات أكثر نحافة وهزال، كان مصاباً بعجز في القلب، لديه طفل في الابتدائية وبنتان في مرحلة الإعدادية وزوجة مخلصة، كنّا نتبادل أطراف الحديث في الغالب، أحينا أمضي معه وقتا طويلا في أيام الجمع، يحكي لي عن ذكاء أولاده، ويركز على الحساسية المفرطة لهم خاصة ابنته الكبيرة، كان يؤكد لي أنه بإمكانه أن يُخرج ابنته من أعماق الكآبة، بكلمات قليلة، وعندما سألته كيف؟، كان يقول ببساطة، أركّز على الصفات الجيدة التي تحملها في شخصيتها.
واصلتُ زيارتي لصديقي صاحب الدكان، في أوقات معينة أجد دكانه مغلقا، فيصيبني القلق عليه، أخشى أن يتوقف قلبه عن النبض، فتضيع عائلته، وغالبا ما كنتُ أوبّخ نفسي لأنني لم أسعَ لمعرفة مكان سكنه، ولم أسأل عن مكان بيته قط، أحيانا أجد زوجته في الدكان، امرأة بسيطة محترمة مثل زوجها، لم تكن تحدثني عن أبنائها، ولم أسألها عنهم، لكنني أضطر للسؤال عن زوجها، فتخبرني بأنه يعاني من آلام في القلب، أطلبُ منها أن تنقل تحياتي وتمنياتي له بالشفاء.
في زيارتي اللاحقة أرى صاحب الدكان بجلسته المعهودة نفسها، أكثر شيء كان يقلقني عليه ويزعجني تعاطيه الدخان باستمرار، كان فيه نهم غريب على التدخين، رغم تحذيرات الطبيب، حتى نصائحي ورجائي لم يمنعه عن ذلك، ازداد ضعفا وهزالا، كنتُ أفكر بعائلته ولده وابنتيه، خاصة أنهم متميزون ومتفوقون في الدراسة، ثم تضاعفت حالات إغلاق الدكان، وحتى عندما يكون مفتوحا كنت أرى الزوجة تقوم بالبيع والشراء.
لا تبخل على الناس بالكلمة الطيبة
عندما رأيتُ صديقي صاحب الدكان في مكانه المعتاد بعد غياب استمر شهرا، فرحتُ فرحا كبيرا، لكنني حزنت أيضا بسبب حالة الضعف التي فتكت بجسده، وتمسكه الغريب بالسيجارة وحصرها بين إصبعيه بشدة كأنها تريد أن تهرب منه، حتى عندما يضعها بين شفتيه ويسحب الدخان، كان شرِهاً على نحو غريب، بعدها فكرتُ بطريقة ما تجعله يكف عن قتل نفسه بيده، وتذكرتُ ذلك العلاج بالكلمات، أعني به العلاج المعنوي، بدأتُ أشيد بقوة إرادة صاحب الدكان، وبحرصه على أولاده وتميزهم، وبحالة الإيثار التي يتحلى بها من أجل عائلته.
في البداية لم أكن أرى ذلك الأثر الفعال للكلمات، لكن مع الوقت لاحظت أن صديقي بدأ يقلل من التدخين، ويفكّر بصورة جدية بتركها، تفكيره كان بصوت عال، أشركني معه في هذه المهمة، وكان بين مدة وأخرى يسألني (هل فعلا أنا أتميز بالإيثار)؟؟ وكنتُ أجيب عليه بالإيجاب وأنا فعلا مؤمن بأنه رجل أفنى عمره من أجل عائلته، وأنه يتحلى بنكران الذات وهذه الصفة لا يمتلكها إلا كبار النفوس والقلوب.
لا أخفي عليكم أنني بدأتُ أشعر بالحبور والسعادة الكبيرة حين كنتُ أرى دماء الصحة والعافية تتدفق من جديد في وجه صاحب الدكان، وكنت ألاحظ كثرة تنقله من مكان الى آخر، وزيادة بضاعته أكثر وأكثر، ومن ثم قام باستئجار الدكان المغلق الذي يقع الى جانبه وأزال الجدار الفاصل بينهما، ودمج بينهما ليصبحا دكانا واحدا كبيرا يضم بضاعة كبيرة ومتنوعة تدر عليه أرباحا مضاعفة، كان صاحب الدكان منهمكا بالعمل والبيع والشراء، فلم يجد وقتا للتدخين، إضافة الى أنه كان قد قرر بشكل حازم ترك التدخين.
ولكن المشكلة التي بدأتُ أعاني منها شخصيا، أنني لم أعد أحصل على الوقت الذي يتيح لصديقي صاحب الدكان أن نتحاور ونتكلم ونتبادل أطراف الحوار، حتى أنني عندما كنت أسأله عن أخبار أولاده وتفوقهم في الدراسة، كان يجيبني وهو مشغول بالبيع وتلبية حاجيات الزبائن، مما جعلني أقلل من الأسئلة، وأنشغل بسطوع العافية في مساحة وجهه الذي بات معافى بصورة تسعدُ القلب.
اضف تعليق