دعونا نتحدث بهدوء وصراحة عما يدور حولنا وما يجري لنا وبنا كعرب، وعلاقة هذا بذاك. هل يستحق العرب ما يجري لهم من أهوال وكوارث، وهل هي من صنعهم أم مفروضة عليهم؟ ولماذا أصبح العرب أمة تقاسي الويلات وتنتحب على ماضيها وتخشى من مستقبلها؟
لا يوجد أدنى شك في أن ما يجري الآن في عالم العرب وللشعوب العربية مرتبط بشكل يكاد يكون كاملاً بوجود اسرائيل وخططها العدوانية التوسعيـة والمستقبليـة. ولكـن، وبالرغم من هذه الحقيقة المـﱠرة فإن معظم العرب يميلون بشكل فـِطري إلى لوم الآخرين، أو الظروف المحيطة بهم، أو الأفعال والقرارات الصادرة عن جهات أو دول أجنبية، لتبرير سقوطهم أو فشلهم، وكأنهم بذلك ينشدون الخلاص من الشعور بالذنب أو تعذيب الضمير أو لوم الآخرين لهم، علماً أن هذا الأسلوب يعكس سلبية متناهية موغلة في أعماق النفس العربية ولا تعكس أي استعداد أو حتى رغبة في التغيير نحو الأفضل. فخلق الأعـذار لتبريـر السقوط أو الاستسلام للأمر الواقع هو ما يمـَيـﱠز العرب الآن من المحيط إلى الخليـج، والانصياع لأمر الحاكم بل وتبرير أخطائه هو سُنـَّةُ العرب، ما عدا إستثناءات قليلة جاءت خلال حقبة الربيـع العربي خصوصاً في تونس ومصر، بالإضافة إلى رفض الفلسطينيين للإنصياع للإحتلال، مع أنهم فشلوا في فعل الشيء نفسه لقيادتهم الفلسطينية المارقة.
الانهيار العربي الحالي لم يأت فجأة أو نتيجة لتطورات داخلية وخارجية باغتت العرب وفاجأتهم بما هم فيه. الإنهيار جاء نتيجة عقود من العبث بعقول الأجيال الجديدة وبمناهج التربية والتعليم في العالم العربي بالاضافة إلى عقود من الاستسلام الشعبي والإنصياع للقهر السياسي وعبادة الفرد القائد إلى حد التضحية بالنفس والوطن والاستسلام الطوعي لذلك الحاكم إنطلاقاً من مبدأ "واطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وكأنه لا يوجد في الاسلام شيء آخر سوى طاعة أولي الأمر في بَاطِلِهم وهو كثير وفي صَوَابـِهـِمْ وهو قليل. إن هذه الانتقائية لم تجئ صدفة ولكنها تعكس انصياع طبقة رجال الدين لما يريده الحاكم، ومحاولة جعل تلك الطاعة جزأ ً من الطاعة الربانية تماماً كما إستعمل ملوك أوروبا في العصور الوسطى اصطلاح "الحق الالهي" (Divine Right) لتبرير وجوب الطاعة العمياء للملك حتى ولو كان ذلك في الباطل.
لقد ساهم الضعف والتهاون العربي في إضعاف قدرة العرب وبشكل متفاقم على الدفاع عن أنفسهم وعن قضاياهم. والانفصام في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ساهم إما في اعتماد الحاكم الفاسد المستبد بشكل متزايد على القوى الخارجية نتيجة لعدم ثقته بشعبه، أو لعدم رغبة الشعب في الدفاع عن ذلك الحاكم حتى ولو أدى ذلك إلى إنهيار الدولة. معادلة صعبة ومؤلمة ولكنها حقيقية.
فلسطين ليست ببعيدة عن المسار العربي العام، فهي تؤثر فيه وتتأثر به. والأمر سيان عندما تكون الأمور جيدة وفي صعود وتقدم. أما عندما تكون الأمور في تراجع وهبوط، فإن العلاقة تصبح سلبية والسوء ينتقل من هذا الطرف إلى ذاك، وعندها فإننا نتحدث عن علاقة سَرَطانية مسارها مُؤلم وملئ بالأوجاع وعلاجها قد يكون أشد إيلاماً وفتكاً ونهايتها قد تكون مميتة.
إن البحث عن مخرج بهدف ايجاد حل للقضية الفلسطينية لا يعني ولا يجب أن يعني أنﱠ على ذلك المَخْرَج أن يكون اسرائيلياً. ولكن الواقع ينبؤنا بخلاف ذلك. فإسرائيل تريد حلاً اسرائيلياً للقضية الفلسطينية يكون على حساب الفلسطينيين والعرب. والقيادة الحالية للفلسطينيين واقعة تحت حماية سلطات الإحتلال الاسرائيلي، وهي بذلك تشكل جزأ عضوياً منه. وقد بلغ العرب من الضعف والتشتت مرحلة أصبح بها حكامهم ينظرون إلى اسرائيل بإعتبارها الحليف المنتظـر بالنسبة لبعضهم في صراعهـم مع إيـران، والوسيط الوحيد لدى أمريكا بالنسبة للبعض الآخر في سعيهم للحصول على رضا أمريكا ومساعداتها، وحائط المبكى بالنسبة للعرب الآخرين لتبرير فشلهم في تحرير فلسطين من خلال تأييد الإدعاء الباطل الوقح بأن فلسطين هي للاسرائيليين.
وهكذا، فإن الوضع العربي الراهن الضعيف والمهلهل والممزق جعل من عملية تسهيل مرور الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية مهمة عربية ومن مسؤولية بعض الأنظمة العربية بغض النظر عن موقف شعوبها، وبدون أي إعتبار لهم إنطلاقاً من قناعة تلك الأنظمة أن ما هو في مصلحة النظام وضمن رؤيته هو بالضرورة في مصلحة الوطن حتى ولو كان واقع الحال عكس ذلك. وفـَشـَلْ الفلسطينيون في وضع حد لشطط قياداتهم يعادل فشل العرب. وقد ساهم ذلك بالإضافة إلى حالة الضعف والاقتتال العربي، في توفير الأرضية الصالحة للتقدم بأفكار سوداء جامحة بإتجاه تسوية ما.
الحديث الدائر الآن في العلن حيناً وبالهمس أحياناً يتمحور حول أفكار إسرائيلية يتم تسويقها من قبل بعض العرب بهدف الضغط على الفلسطينيين للقبول بها. والمطروح الآن هي أفكار اسرائيلية سوف تؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد عوضاً عن حلها. وفي حين أن إستعمال كلمة الحل في الحالة الفلسطينية يعني تنازلات متبادلة، فإن الاغلاق يعني فـَرْض إرادة القوي على الضعيف، وهو ما يجري العمل عليه الآن.
الأفكار المطروحة للتداول تعطي مؤشراً على الغياب الكامل لمفهوم التحرير ومفهوم الانسحاب الإسرائيلي ومفهوم الحقوق الانسانية والوطنية للفلسطينيين وكذلك مفهوم الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة على الأرض والشعب. وفي غياب كل هذه المفاهيم الاساسية، يصبح ماهو مطروح حقيقة ينحصر في بقاء الاحتلال ولكن تحت مسميات مختلفة تـُضْفي على ذلك الاحتلال الديمومة والشرعية الفلسطينية والعربية ومن ثم الدولية، وتعطي الإنطباع الخاطئ بأن هنالك إنسحاباً وسلاماً وحلاً للقضية الفلسطينية.
المتـَدَاوَلْ همساً يشير إلى أهمية ما دار في اجتماع العقبة الثلاثي بين الأردن ومصر واسرائيل، وإلى الدور المحوري الذي ستلعبه ادارة ترمب في ترجمة الأفكار الاسرائيلية المطروحة الآن إلى سياسات مؤطرة عربياً واقليمياً ودولياً. وإستدعاء محمود عباس إلى واشنطن لا يعني مشاورات بقدر ما يعني اصدار أوامر وتعليمات له ولسلطته تؤشر على تسارع الخـُطَى في إتجاه إنضاج الأفكار الاسرائيلية للتسوية والهادفة إلى إغلاق الملف الفلسطيني، وترجمتها إلى سياسات وبرنامج عمل يشمل جميع الأطراف بما في ذلك الفلسطينيين وبرعاية أمريكية ومباركة عربية.
إن التسارع الواضح في جهود الإستيطان وتهويد القوانين يشير إلى طبيعة الأفكار الاسرائيلية لايجاد تسوية ما للقضية الفلسطينية تستثني عملياً أي إنسحاب من الأراضي الفلسطينية بإستثناء ما تبقى من أراضي قطاع غزة الذي نجحت القيادات الفلسطينية، قبل اسرائيل، في فصله عن باقي الأراضي الفلسطينية، وبالتالي سَهـﱠلت مهمة الاحتلال في حصر حل الدولتين في قطاع غزة وفصله وسكانه تماماً عن الأرض الفلسطينية التاريخية.
إن الحديث عن حل الدولتين كان دائماً في صلب الأفكار المطروحة فلسطينياً وعربياً ودولياً، بغض النظر عن الموقف منه، وبالرغم من أنه يهدف حقيقية إلى طمس الحقوق الفلسطينية خصوصاً وأن ترجمة الجزء المتعلق بالفلسطينيين قد تم حصره في إنشاء دويلة فلسطينية في قطاع غزة، أو ما تبقى منه، واعتبار ذلك هو نهاية المطاف بالنسبة لمطلب الدولة الفلسطينية. وهذا سيؤدي إلى إتمام عزل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال سور اسرائيلي عازل بشكل كامل. ماهو مطـروح اسرائيليـاً، إذاً، هو التخلص من الخطر الديموغرافي الفلسطيني من خلال فصل سكان القطاع مع أقل مساحة ممكنة من الأرض عن الكيان الاسرائيلي والتخلص من المسؤولية القانونية التي يفرضها القانون الدولي على أي دولة إحتلال.
وفي سياق هذا الحل والأفكار المطروحة، يبدو أن مصر، وعن حق، غير راغبة ولأسباب مختلفة في قبول المقترح الاسرائيلي بإعطاء قطاع غزة عمقاً جغرافياً من خلال ضم أجزاء من صحراء سيناء إلى دويلة قطاع غزة، كما أنها قد لا تكون راغبة أيضاً في بقاء حدودها مع فلسطين هي المنفذ الوحيد لدويلة قطاع غزة على العالم الخارجي الأمر الذي سيضعها تحت مسؤولية أدبية وأخلاقية وضغوط فلسطينية وعربية هائلة ويحرج علاقاتها مع اسرائيل ويضيف عبئاً أمنياً عليها للسيطرة على المجموعات الاسلامية المسلحة القابعة في صحراء سيناء، أو هكذا يعتقد أولي الأمر في مصر.
وهكذا، يدور الحديث الآن حول بناء جزيرة إصطناعية في المياه الاقليمية الفلسطينية المقابلة لشواطئ قطاع غزه يتم استعمالها كنقطة عبور وخروج لقطاع غزه وفيها مطار وميناء ونقطة حدود. وهنا يجب أن تؤخذ النقاط التالية بعين الإعتبار:-
1. بناء هذه الجزيرة والمرجح أن تكون تكلفتها بين 5-10 مليار دولار سوف تقع مسؤولية تمويله على مال النفط العربي وبقرار أمريكي.
2. حدود قطاع غزه تبقى مصطنعة وتعكس توافقات اقليمية ودولية تسمح ببناء تلك الجزيرة الاصطناعية. وهكذا تبقى السيادة الفلسطينية مرهونة لحسن نوايا أطراف أخرى بما فيها اسرائيل وسماحها بالإستمرار في استعمال تلك الجزيرة كنقطة عبور وخروج حدودية.
3. إن هذا المخطط قد يتم تنفيذه بالتعاون مع حركة حماس كما هي الآن، أو بعد أن يتم تفتيتها إلى حماس الداخل والخارج أو بعد أن يتم استبدالها كلياً.
وفي كل الأحوال، من الخطأ الإستمرار في إعتبار إسرائيل قضية تخص الفلسطينيين لوحدهم وأن خطرها محصور بهم. فإسرائيل والصهيونية هي أيضاً العدو الطبيعي لكل ما هو عربي. وإصرار البعض على إعتبار إسرائيل هي قضية ومشكلة تخص الفلسطينيين لوحدهم هي هروب إلى الأمام أملاً لدى البعض في أن تختفي المشكلة من تلقاء نفسها، أو الاستسلام القـَدَري لها من منطلق "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" مع العلم أن "الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
اضف تعليق