كثير ذلك الكلام الذي قيل ولا يزال يُقال، عن أهمية المواهب النافرة في عملية دفع الأجيال قُدُما في مضامير العلم والعمل والإبداع عموما، فالأمة بلا مواهب ستكون خالية من الابتكار، والخلو من الأخير يعني مجافاة حتمية للتقدم، وفقر مستدام في المنتَج الإبداعي، ما ينعكس حتما على واقع الناس، تفكيرا وعملا وإنتاجا، لذلك عندما نقوم بقراءة مستفيضة لمزايا الأمم من جهة، وأسباب تراجعها من جهة أخرى، سنلاحظ توافر المواهب النادرة والنافرة لدى الأمم المتقدمة حصرا.
فيما تكثر الهفوات والنواقص لدى الأمم المهمِلة، وربما يكون هذا النوع من المقارنة هو الأسرع والأدق للتفريق بين مستويات الأمم العلمية والإبداعية والمتفردة، لنعرف بأن أحداهما تنعم بمزايا التطور والاستقرار، فيما تفتقر لها الأمة التي تتخبط في وحل الإخفاق، أما المزايا فهي معروفة لنا جميعا، وغالبا من نتحدث عنها ونشير إليها ونضرب الأمثلة عنها، لكننا ونحن نتحدث عن فضائل الأمم وأسباب تقدمها، لا نبذل ما يكفي من جهد لكي نكون من بين الأمم المتطورة، نظرا لوجود خلل شبه جمعي يمنعنا عن الوصول الى هذا الهدف الأهم.
ولعلنا لا نخطئ عندما نخوض في أسباب التراجع، حين نقول أننا نُعجَب بالكلام الجميل والمؤثّر من حيث المعنى، لكننا لا نتوغل أكثر من هذا الحد، أي أننا نكتفي بجمال المعنى فحسب، لكننا كثيرا ما نسمع من المفكرين والفلاسفة والعلماء، أن الكلام من دون عمل يبقى في حيّز العدم، وهو قطعا لا فائدة منه إلا في الاجترار اللفظي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فيما يكون العمل ممثلا أمينا ولسانا سليما للفكر والكتابة والكلام أيضا، لهذا قيل إن الأعمال أعلى صوتا من الأقوال، وقال العلماء، لا تتكلم، بل دع عملك يتحدث بدلا عنك، وهكذا تنجح الأمم وتتميز وتستمر في التطور، عندما يكون العمل مرافقا للكلام بل أحيانا يكون متقدما عليه، وهذا لن يتحقق إلا في حالة التنبّه لأهمية تحويل الابتكار من فحواه العلمي الى ثرائه العملي الذي يثري بدوره كيان الأمة ووجودها وكينونتها قياسا بالأمم الأخرى.
ماذا نقدم من دعم للمتفوقين؟
ولكن قبل هذا وذاك، ونحن نتكلم ونركز على أهمية تحويل الفكر الى منجز عملي، هل تأكدنا أولا أننا نمتلك ثقافة الانجاز التي تؤهلنا الى هذه المرحلة، وقبل ذلك هل هي ثقافة شائعة في المنهج السلوكي اليومي لمجتمعنا، وهل نرعى المتفوقين المبتكرين الموهوبين كما يجب، بمعنى هل تقوم الدولة كنظام سياسي يدبر شؤون الأمة، بما يجب أن يقوم به لتعضيد العلم ونشر ثقافة حب الانجاز بين الجميع؟.
بالطبع نحن هنا نقدم تساؤلات مشروعة، ولعل الإجابة عنها بدقة، تقودنا الى النتائج السليمة التي تساعد على فهم المشكلة وتمضي في تقديم البدائل والحلول، لذلك فإن الجواب الذي يشفي الغليل سنجده في سلوكنا الواقعي إزاء التفوق والمتفوقين، وإهمالنا لنشر ثقافة تحويل الفكر الى منتَج، ونقصد بهذا القول أن المسؤولين الحكوميين أولا والمنظمات المدنية ثانيا، والتجمعات الثقافية والدينية ثالثا، والأفراد رابعا، عليهم جميعا أن يسهموا بطريقة أو اخرى في نشر الاهتمام الفردي والجمعي بالانتاج، وبهذا يتضح أن الجميع من دون استثناء مسؤولون عن المساهمة الفكرية والفعلية في تحقيق هذا الهدف الواضح ونعني به تحويل الأفكار الى مشاريع وأعمال، مضافا الى ذلك ومقرونا به رعاية المتفوقين بأقصى ما يمكن أن تكون عليه الرعاية، لكي يتم استثمار تفوقهم لصالح الأمة حتى تكون هنالك فرصة حقيقية من اللحاق بالركب العالمي بخصوص الاهتمام الجاد والفعلي بتحول الفكر من حالته المجردة الى حالته العملية المنتِجة.
ولكن حتى تكون قادرا على الإنتاج المبدع، سوف تحتاج الى الابتكار، وهذا يتطلب وجود العقول المتفردة القادرة على تحقيق هذا الاشتراط الأساس، ولكن كما تشي الوقائع المتوافرة لدينا، تقول بأن ما نلاحظه على العرب عموما والعراقيين على وجه الخصوص، أنهم طاردون للمتفوقين وللكفاءات، فالمتفوق الذكي المبتكر الموهوب، عندما لا يجد الرعاية التي يحتاجها ويستحقها، لا يبقى ساكنا مستكينا خاضعا لرحمة الإهمال الحكومي والمؤسساتي والشعبي أيضا، بل سرعان ما يبحث عن سبل وطرق ووسائل تكفل له إظهار مزايا وعطايا موهبته وتفوقه في حيّز الواقع، ولا شك أنه سيجد من يظفر بموهبته ويحتضنها ويرعاها ويعطيها حقها من الرعاية والاهتمام، لهذا تحدث موجات هجرة العقول النادرة من أماكنها الى الأماكن والأمم التي تمنحها الأفضلية وتعطيها الفرص التي تليق بها.
المواهب النافرة ذخيرة المستقبل الناجز
هكذا نؤكد بمرارة على وجود هذا الخطأ الإستراتيجي لدى الأمم المتأخرة، فهي متخلفة عن سواها ليس لأنها خالية من العقول المتطورة، بل لأنها طاردة لها بسبب إهمالها، ما يجعل من هذه الكفاءات باحثة عن الأمم التي ترعاها، وتمنحها ما يليق بها من الرعاية والاهتمام، أما استمرا الإهمال لها، فإنه يضطرها للبحث عن البديل، عند ذلك تكون المهاجر هي البديل، فيضطر الموهوبون وأصحاب الكفاءات الى مغادرة المجتمع الذي ينتمون إليه، ويغادرون دولتهم الأم، ويبحثون عن أمكنة ودول أخرى تعرف قيمة التفوق والموهبة، وينتشر في سلوكها مبدأ تحويل الفكر الى عمل، هناك سوف يجد المتفوقون العرب وغيرهم مجالا واسعا لطرح أفكارهم وأعمالهم واثبات تفوقهم وتحقيق ذواتهم، فتتحقق استفادة المتفوق لذاته، فيما تستثمر تلك الدول الحاضنة لمواهبنا وكفاءاتنا، قدراتهم المتنوعة لصالح تلك الأمم، وليس لصالح الأمة التي أنجبت هذه الكفاءات، لسبب واضح أنها لم تقدم لهم الفرص التي يستحقونها.
فما فائدة أن تكون متفوقا في العلم والابتكار، ولا تجد حيزا تطبق فيه أفكارك وتثبت فيه مواهبك وقدراتك، أما لماذا أصبحت الدول العربية طاردة للمتفوقين وأصحاب الكفاءات، فهذا أمر واضح وأسبابه معروفة جدا، لان المتفوق يشكل خطرا على أنصاف الموهوبين الذين يحتلون المناصب والوظائف بالتزوير والتملق والرياء، خاصة أننا كعرب وعراقيين نعيش في ظل حكومات هي نفسها لا تحب التفوق، إلا اذا كان يصب ذلك في تثبيت السلطة وحمايتها، أما عكس ذلك فهي حكومات طاردة للعقول المتعلمة، لأنها تشكل خطرا على العقول الفارغة، تلك التي لا تريد من الدنيا سوى المال والجاه والقوة الظالمة.
بالنتيجة أو الخلاصة لا سبيل الى تقدم أمة المسلمين والعرب والعراق على وجه الخصوص، ما لم توضع الخطط العلمية العملية اللازمة والدقيقة، لرعاية المواهب النافرة، والعقول المبدعة، مع توفير ظروف العمل المناسبة لها، ودعمها ماديا ومعنويا، حتى تعود طاقاتها لتصب في مصلحة الأمة التي ولدت هذه العقول والمواهب النافرة، وعدم التفريط بها أو دفعها للهجرة لأي سبب كان، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون وضع ما يلزم من دراسات وتطبيقات علمية عملية تسهم بصورة جادة وقاطعة في معالجة هذا الخلل الإستراتيجي الذي يطيح بحاضر الأمة ومستقبلها.
اضف تعليق