تثير تحركات الحكومة التركية الكثير من القلق لدى حلفائها وخصومها على حد سواء، فالسلوك السياسي التركي يصعب التنبؤ به، وسمته التقلب في اتجاهات متطرفة جدا بين الهجوم العنيف من جهة، او الافراط في التنازل عن حقوقها من جهة اخرى، لتبدأ رحلة بناء صرح الفشل السياسي بالتزامن مع بزوغ شمس الحلول الكبرى في الشرق الاوسط.
الزيارة الاخيرة للرئيس التركي رجب طيب اردوغان لدول الخليج انتجت خلافا عنيفا مع الجارة ايران وصل الى حد اتهام الاخيرة باتباع سياسة "نشر التشيع في المنطقة" بحسب وصف اردوغان، ولم تهدأ الامور الا بعد حالة شد وجذب بين الطرفين، فيما يقول المتابعون لشؤون الشرق الاوسط ان هذه الحالة لا تفسر الا في اطار سياسة الفشل وغياب الرؤية الواضحة للوضع الراهن في المنطقة، كون طهران شريكا اقتصاديا لأنقرة فضلا عن دورها في مساعدة الاتراك اثناء الانقلاب الفاشل ضد اردوغان، يضاف الى كل ذلك حاجة تركيا لإيران في حل الازمة السورية التي القت بضلالها على الداخل التركي من خلال تعاظم دور الاكراد.
ومن ايران الى اوربا حيث فتح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وحكومته جبهة جديدة مع الاوربيين في كل من المانيا وهولندا، متهما يوم الاثنين 13 مارس/آذار، السلطات الألمانية، وعلى رأسها المستشارة أنغيلا ميركل، بدعم الإرهاب على أراضي بلادها. اما في هولندا فقد تحولت حادثة منع السلطات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، ووزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية فاطمة بتول صيان قايا الى توتر حاد بين البلدين.
دبلوماسية الغضب هذه تأتي في سياق سياسة الهروب الى الامام بعد وصول المشهد التركي الى اعلى مستويات التعقيد والاستعصاء عن الحل وسط زحمة وتراكم الازمات بين الداخل والخارج، ولذلك سوف يحقق هذا التوتر الجديد مع اوربا عدة فوائد مرحلية وقد تكون شخصية لاردوغان وحده:
اولاً: يسهم هذا التوتر في ابعاد الانظار عن المشكلات الداخلية التي تعاني منها تركيا، فهي توفر "علكة" للشعب من اجل نيسان جوهر الازمة في البلاد وعمق الخلل الذي لا يمكن حله في القريب العاجل، فالاكراد الطامحون للانفصال تنمو قدراتهم والارهاب يضرب البلاد بشكل شبه مستمر، والتضييق على الحريات العامة والحريات الصحفية في اعلى مستوياته.
ثانياً: الاستفادة من هذه الحوادث لحصد مزيد من الاصوات المؤيدة للاستفتاء المقرر اجرائه في 16 أبريل/نيسان المقبل. فمن خلال ردود الفعل العنيفة يبدو اردوغان لشبعه بانه القائد المثالي لاستعادة الامجاد العثمانية الغابرة. وبدا ذلك واضحا من خلال تصريحه بان التصويت بـ"نعم" في الاستفتاء حول توسيع صلاحياته يشكل "أفضل رد على أعداء تركيا".
ثالثاً: كسب اصوات الاسلاميين، حيث استخدم الدين كوسيلة لتدعيم حملة لدعم الاستفتاء، إذ اتهم اردوغان الدول الغربية بالعداء للإسلام، قائلا إنهم "يوقفون اللاجئين على الحدود، ويمارسون عليهم ضغوطات لا إنسانية، ودول الغرب تترك الميدان للفاشيين وأعداء الأجانب". كما اتهم الرئيس التركي الهولنديين بالاشتراك في مجزرة سريبرينيتشا (في البوسنة) ودورهم في قتل ثمانية آلاف مسلم هناك. ولفت إلى أن "الفاشية الأوروبية التي بدأت تهاجم الإسلام والمسلمين في أوروبا تعني كافة المسلمين في العالم".
رابعاً: الثأر من الاتحاد الاوربي الذي اغلق ابوابه بشكل شبه نهائي بوجه الرغبة التركية بدخول الاتحاد، فالآثار التي ترتبت التوتر الاخير تسهم في ضخ المزيد من الدماء للأحزاب اليمينية المتطرفة والتي تمثل تهديديا وجوديا للاتحاد، ما يعني زيادة غلة المشكلات داخل الدول الاوربي التي لم تضمد جراح الانفصال البريطاني بعد.
ما يجري بين اوربا وتركيا غاياته الاساسية انتخابية محضة، ويبدو ان نجاح الرئيس الامريكي دونالد ترامب في شعاراته الشعبوية قد اعجبت الحكومة التركية ورئيس البلاد رجب طيب اردوغان، وكأن هناك تناغما وتنسيقا بين كل الاحزاب المتطرفة في العالم للاستفادة من الرفض الشعبي للنخب التقليدية الحاكمة والخطابات الدبلوماسية الهادئة، حتى وان كانت الاساليب المستخدمة تتنافى مع القيم والمبادئ المعلنة، فالاهم هو حصد الاصوات وتحقيق اهداف القائمين على المشاريع السياسية.
لكن هذا العنف الدبلوماسي يعكس حالة الارتباك والتخبط، ولا يمكن ان ينتج استقرارا داخليا يطمح اليه الشعب التركي، بل وسوف يعود بالسلب على دور تركيا الخارجي وخاصة في منطقة الشرق الاوسط التي تنتظرها استحقاقات وتقاسم لمناطق النفوذ في المرحلة المقبلة، فداعش في العراق باتت ايامها معدودة، والحسم في سوريا يقترب من نهايته، وحينما تحط الحرب اوزارها يرتفع صوت دعاة السلام، وتقل فاعلية الصراخ والغضب.
اضف تعليق