طفل في العاشرة من عمره، بجسد نحيف، يحمل علبة كارتون صغيرة، في جوفها نوع رديء ورخيص من (النساتل)، يتوسل المارة أن يشتروا منه، الذل والانكسار يسطع في عينيه، الشحوب ينتشر في وجهه، الجميع كما لاحظت لا يهمه أمر هذا الطفل، ولا أحد يفكر بالشراء منه، والمحال بعينه أن يفكر أحمد من المارة بالأسباب التي دفعت بهذا الطفل الى ترك مقعده الدراسي، ليتحوّل الى أحد الباعة المتجولين الذين انتشروا في تقاطعات السيارات، والمناطق المكتظة بالناس كالساحات أو مساطر العمال وما شابه.
عندما اقترب مني هذا الطفل، عارضا عليَّ سلعته، قرأتُ في عينيه نداء الأبناء الى الآباء بأن يتحملوا مسؤوليتهم ويقدموا المساعدة اللازمة للأبناء، نظرتُ طويلا في وجهه، وعندما لم أحرك ساكنا، وظللتُ أتعمق في قراءة ما يشعر به الطفل بصمت، ظنّ أنني مثل الآخرين، ينظرون إليه بلامبالاة، كأنهم غرباء عنه، لا يشعرون بما يشعر به ويتعرض له من آلام معنوية شعورية كبيرة، وهي في كل الأحوال لا تناسب عمره، ولا تنسجم مع الطفولة في أي حال.
تركني ومضى في حال سبيله بعد أن لاحظ صمتي، وعندما ابتعد يائسا ناديته، فاستدار وعاد لي مسرعا متلهفا، سألته:
- ما اسمك؟.
- سعيد.
- كم عمرك أو مواليدك؟.
- لا أعرف؟.
- مع من تسكن؟
- مع أبي وأمي وخمسة أخوة وأخوات.
- وأبوك ماذا يعمل؟.
- عاجز.
اشتريتُ منه كامل العلبة وتبيّن أن ثمنها زهيد، وربما لا يمكن أن يسد رمق العائلة لوجبة غذاء واحدة، سألتُ الطفل عن دراسته، فقال انه لم يدخل يوما واحدا لمدرسة، ولا يعرف يكتب اسمه، بل لا يعرف حرفا واحدا من حروف لغتنا، سألته لماذا فقال، أبي عاجز، لا يستطيع العمل، قلت له هل هو مريض أم ماذا؟، لم يجبني الطفل، تضاعف الحزن في عينيه، قلت له لو عرضت عليك تدخل المدرسة هل توافق، تبسَّم الطفل وقال: (أصحابي في الرابع ابتدائي). قلت له لا يهم هنالك طريقة يمكنك أن تختصر بها الطريق. فقال: حتى لو وافقت على ذلك، من يشتري لي ملابس وكتب ومن يعطيني يوميتي، من يساعدني على كتابة واجباتي اليومية، وقبل هذا وذاك، من يعيل عائلتي وأبي لا يحب العمل!.
أبوك لا يحب العمل؟، كيف، ألم تقل أنه عاجز؟. قال نعم هو عاجز لكنه لا يعاني من مرض، إنه يحب الجلوس في المقهى، يدخن الناركيلة، ويقضي كل وقته خارج البيت، في الليل يعود، ليحاسبني وأخوتي على الوارد اليومي. هل هناك أخوة لك يقومون بهذا العمل أيضا؟. نعم نحن جميعا تركنا المدارس وصرنا باعة متجولين.
طلبتُ منه أن يأخذني الى بيتهم، لابد أن أتكلم مع الأب، لابد أن أنقذ هؤلاء الأطفال، لم يوافق في البداية، لكنني أقنعته وأوضحت له أنني أريد أساعد أباه وعائلته حتى يعود هو للمدرسة، وافق الطفل وقال علينا أن نركب سيارة أجرة، ركبنا فعلا وفي غضون عشر دقائق وصلنا أحد الأحياء العشوائية، دخلنا في الأزقة الضيقة، خراب حقيقي ما رأته عيناي، في وسط الزقاق الضيق نهر ممتلئ بالمياه الثقيلة الآسنة، الأزبال تفرش أرض الزقاق، الذباب والقاذورات كذلك، أبواب البيوت وجدرانها تؤكد أننا إزاء خرائب وليس بيوت تليق بالبشر، تساءلت مع نفسي، أين الحكومة، أين أموال النفط، أين ثروات الشعب، بلد يطفوا على بحيرات من الذهب الأسود، صدمني منظر أطفال عراة حفاة يلعبون بالمياه الآسنة، والذباب يصبغ أجسادهم ويملأ فتحات أنوفهم وأفواههم، منظر مؤسف لا يحتمل حقا، من يقف وراء هذا الدمار، سألت نفسي وشعرت بالغثيان، ودهمتني رغبة بالتقيؤ!.
وصلنا بيت الطفل، طلب مني أن أنتظر في الباب، دخل لدقائق وعاد لي، وغابات الحزن تعتلي عينيه وملامح وجهه وقال: إن أبي غير موجود في البيت. وعندما سألته أين أباك، سمعت صوت أمه من خلف حجاب: إنه في المقهى، هذا هو عمله منذ سنين طويلة. ذهبنا أنا والطفل باتجاه المقهى، لكن الطفل قال لا أستطيع الدخول معك للمقهى، إذا رآني أبي يضربني بقسوة، قلت له لا تخف، سأدخل وحدي لكن عليك أن تدلني على المقهى وتبتعد عنها، ولن أخبر أباك بأنك أتيت بي للمقهى، وأعطيته قليلا من النقود، فأشرقت عيناه بفرح طفولي متوهج.
أوصلني الطفل الى باب المقهى، وقال ينادون أبي (أبو سعيد)، وفرّ هاربا من المكان كأن خطرا قاتلا يطارده. دخلتُ المقهى ومضيت الى صاحبها مباشرة، ألقيت عليه السلام، وطلبتُ منه (استكان شاي بقليل من السكر)، فأتاني به، وأعطيته سيجارة، أخذها مني وأشعل قداحته وأرّث لي سجارتي ثم سجارته، الناس البسطاء ينسجمون مع الغريب بسرعة، بل لم اشعر بنفسي غريب مع صاحب المقهى، وجهه هادئ صبوح وكريم، لا يعاني من العقد، لم أدخل معه فيما أريد، سألته عن الخدمات، الماء والكهرباء، فضحك بصوت عال ساخر، وقال (نسمع بهما ولا نراهما). فقلت له: هل تملّكتم هذه البيوت رسميا؟. ضحك أيضا وقال: عمري تجاوز الخمسين ولا أمتلك مترا واحدا في بلادي.
تجاذبنا أطراف الحديث أنا وصاحب المقهى، كسبتُ ثقته، قلت له أنا كاتب قصص، أبحث عن الوقائع والحكايات الاجتماعية كي أدونها وأنشرها، هذه مهنتي. فوجئ صاحب المقهى بكلامي، وشعرتُ أن حاجزا بدأ يعلو بيننا، لكنني قلتُ لها: أنا إنسان بسيط، جذوري فلاحية، نشأت في عائلة فقيرة، أبي لا يقرأ ولا يكتب وأمي كذلك، لكنني ثابرت وسعيت وتعلمت، أنا لا أحب الناس المتكبرين، ثم أن الكتاب ومعظم من يعملون في الصحافة والفكر أنسا بسطاء يحبون الجميع. شعرتُ أنه عاد الى طبيعته، واستطعتُ أن أهدم الجدار الفاصل بيننا قبل أن يعلو.
قال: الحقيقة أنا أحببتك، كأنك أخي، أو أحد أصدقائي. شكرته على مشاعره وثقته، وقلت له ستكون متفضلا عليّ لو دليتني على شخص اسمه (أبو سعيد). سألني ماذا تريد منه. أجبته كي أحصل منه على حكاية كما قلت لك أنا جامع للحكايات والقصص الاجتماعية، إنها مصدر رزقي. فقال صاحب المقهى: هل ترى ذلك الرجل الذي يجلس في الزاوية وفي يده موبايل (حديث) وأمامه ناركيلة ويضع على رأسه (يشماغ) منقّط بالأسود والأبيض. قلت نعم. قال هو ذاك (أبو سعيد). شكرته ومضيت الى مقصدي، سلمتُ على أبي سعيد وسألته هل تسمح لي بالجلوس. لم يستغرب طلبي، فسج لي مجالا ونهض واقفا مرحّبا بي، شكرته وجلست الى جواره، نادى على النادل، طلب لي شايا وسألني إن كنت أرغب بناركيلة، فشكرته وقلت له الشاي يكفي. سألني أبو سعيد: هل تعرفني، هل تقصدني بشيء أو مساعدة أنا حاضر.
قلتُ له: تبدو إنسانا لطيفا وطيبا، بالفعل أنا قصدتك في طلب مهم. قال: أنا في رسم الخدمة إذا أستطيع على ما تطلب. شكرته كثيرا وقلتُ له ربما يكون طلبي صعبا عليك، ولكنني لن أخرج من ضيافتك قبل أن تتعهد لي بمساعدتي. قال: إذا يتطلب الأمر أموالا يجب أن تعذرني أنا من طبقة الفقراء. قلت له: لا أريد منك أموالا، بل أريد أن تعيد أولادك الى المدرسة. هنا تغيّر وجه الرجل وقفز واقفا، وارتعش جسده بشدة، واشتعل الغضب في أعماقه، ثم صرخ في وجه: ومن أنت ولماذا تتدخل في شؤون عائلتي، هل أنت أحد أقربائي، أو قريب لزوجتي أو أطفالي، كيف تسمح لنفسك بالتدخل في حياتي وحياة عائلتي؟.
كان جسده يرتجف بشدة، وقذف بخرطوم الناركيلة جانبا، ورأيت الزبد يتقاذف من بين شفتيه، وعلا صراخه في بين الجلاس، هرع إلينا صاحب المقهى، وهدّأ أبا سعيد، وقال له هذا الرجل (وأشار لي) من معارفنا، تهاوى أبو سعيد على المقعد الخشب، ودخل في حالة صمت كأنها غيبوبة، ثم رأيت دموعه تتساقط من عينيه، اعتذر لي عن الكلمات غير اللائقة التي تفوّه بها ضدي، ثم بدأ حكايته مع الفقر الأزلي الذي رافقه طفلا وشابا وكهلا، وها أن الشيخوخة تطرق بابه لكن الفقر لم يتركه حتى هذه اللحظة.
قلت له: يا أبا سعيد، وهل تتخلص من الفقر بظلمك لأبنائك؟؟. قال: أنا لا أعرف سوى مهنة (عامل بناء)، والآن كبرت، لم أعد قادر عليها، الدولة لا تساعدني، صحتي لا تساعدني، أعاني من أمراض مزمنة يضاعفها التدخين. فقلت له يجب أن تبدأ من جديد، يجب أن تترك التدخين، وتبدأ بمهنة حرة، كأن تبيع الخضار والفواكه، سوف أتفق مع من يزودك بالخضرة، وأهيّئ لك مكانا مناسبا للبيع، أنت ما عليك سوى البيع. تهللت أساريره بالفرح، وتزايدت دموعه، ورحب صاحب المقهى بمقترحي، أما أنا فقد حسبت بيني وبين نفسي مبلغ هذا المشروع الذي قد ينقذ عائلة، لا يتجاوز ربع راتبي، فبيع الخضار، لا يتطلب أكثر من مبلغ (200.000) دينار، وافق أبو سعيد ورأيت رغبة قوية في عينيه، وشعرت بإصراره، وبدأنا مشروعنا هذا، نعم هناك مئات النسخ من هذه الحكاية، وأنا لا أستطيع أن أعالج إلا حالة واحدة فقط، ولكن ماذا سيحدث لو تكافل جميع الناس فيما بينهم، وساهم كل شخص منّا بما يتمكن عليه لإنقاذ المحتاجين، قد يقول قائل هذه مهمة الحكومة وليست مهمتنا، ولكن الدين والأعراف والشهامة وجميع القيم وجّهت بالكافل والتعاون والمساعدة المتبادلة بين الناس جميعاً.
اضف تعليق