في عام 2007 صدر كتاب "عقيدة الصدمة _ صعود رأسمالية الكوارث" للمؤلفة نعومي كلاين واعتبر الكتاب من أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة في العالم منذ ثلاثين عاما. وتسمي السياسات المتبعة في بعض البلدان بسياسات "المعالجة بالصدمة"، وتشرح ما جرى في البلدان التي تعرضت للعلاج بـ"الصدمة"، من إندونيسيا إلى تشيلي والأرجنتين والبرازيل ثم روسيا وشرق آسيا وصولاً إلى العراق.
ويقوم مذهب رأسمالية الكوارث او "المعالجة بالصدمة" على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً، أم هجوماً إرهابيا، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
فالكارثة تضع جميع السكان في حال من الصدمة الجماعية، وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية، كلها، لتطويع مجمل المجتمعات. وفي عام 1982 كتب ميلتون فريدمان زعيم مدرسة شيكاغو: "وحدها الأزمة – الواقعة أو المنظورة- هي التي تحدث تغييراً فعلياً". وفي ضوء ذلك افاد معهد المشروع الامريكي نظرا لايمانه بفكرة فريدمان ان الاعصار "كاترينا"، انجز في يوم واحد.. ما لم يستطع مصلحوا التعليم المدرسي في لويزيانا ان ينجزوه برغم سنين المحاولة". ويقصد بتحويل التعليم الى القطاع الخاص.
يؤكد اسلوب المعالجة بالصدمة على ثلاثة مرتكزات: إلغاء القطاع العام، منح الحرية الكاملة للشركات، الحد الكبير للإنفاق الاجتماعي. وبحسب عرض للكتاب في موقع الجزيرة يقول فيه: "في كل بلد تطبق فيه سياسات مدرسة شيكاغو كان ينشأ تحالف نافذ بين عدد صغير من الشركات الكبرى وطبقة من السياسيين الأكثر ثراءً".
تركز الكاتبة على ما جرى في العراق بعد عام 2003 باعتباره مسرحا مهما لتطبيق "عقيدة الصدمة"، بعد تدمير كافة المؤسسات وجعل البلد ورقة بيضاء من اجل اعادة بنائه حسب الخطط الجديدة، لكن ما حدث هو ردة الفعل التي ادت الى فشل المشروع وهو ما تسميه الكاتبة بـ"فرط الصدم". وعلى ضوء ذلك تم تخصيص الفصل الاخير من الكتاب لمناقشة اسباب ارتداد عقيدة الصدمة بعد موجة الرفض العالمي لرأسمالية الكوارث، ويؤكد الكتاب بان هذه السياسات الاقتصادية قد بدأت تنحسر بشكل كبير.
لكن كلاين ربما كانت تركز على التغيير الجذري والمفاجئ في السياسات الاقتصادية، وبسبب ردة الفعل العالمية جعلت سياسات الصدمة تعدل من مسارها وتبحث عن ما يمكن ان نسميه "الصدم التدريجي"، حيث لا تشعر الشعوب التي تتعرض للتغيرات الاقتصادية مباشرة ومن ثم يمكن لمخططي "الصدمات" تجنب المقاومة التي يمكن ان تحدث.
في العراق الذي كان المسرح الاكبر للصدمة والسبب في تراجعها ايضا؛ تعود عقيدة الصدمة بإسلوبها الزاحف بهدوء "الصدم التدريجي"، ففي العراق مهد "التعديل والتحوير وحقل التجارب العالمية"، وقد تم ذلك من خلال خصخصة قطاعات الدولة العراقية والاعتماد المتزايد على القطاع الخاص مع غياب دور النشاط الحكومي وانعدام فعاليته، بسبب الازمات السياسية والامنية المزمنة، والتي تمنع حدوث اي تقدم ملموس على مختلف المستويات.
لكن الاخطر فيما يحدث الان في العراق محاولة خصخصة قطاعات ترتبط ارتباطا مباشرا بحياة المواطن وتوفير الاحتياجات الاساسية له، وهذه القطاعات هي:
1- البطاقة التموينية، فقد بدأت الحكومة بإلغاء البطاقة التموينية بشكل تدريجي وغير معلن، بل واستخدمت اسلوب التضليل والنفاق في خطابها الموجه للشعب، ففي الوقت الذي تقول القيادة الحكومية ان الغاء البطاقة التموينية امر مرفوض؛ تتقاعس عن توفير مفرداتها للمواطن، ثم طرح بعض النواب والوزراء استبدال البطاقة التموينية بمقابل مادي، وبين النفي والاثبات لا تزال البطاقة التموينية مفقودة في العراق الا في نطاق بعض المفردات الاساسية التي يتأخر وصولها في موعدها المحدد ما يضطر المواطن الى شراء احتياجاته من السوق الى ان تعود على هذه الحالة، واصبحت مفردات البطاقة التموينية جانبا ثانويا (وهذا ما تريده الحكومة بالتحديد، ان يتعود المواطن على تخلي الحكومة عن التزاماتها)، وما يدعم توجهات المسؤولين العراقيين هو شروط صندوق النقد الدولي الذي يرفض الدعم الحكومي ويدعم الخصخصة، وبعد سنوات من المعانات والاهمال الحكومي المتعمد لتهيئة المواطن لمرحلة الخصخصة تجد المواطن العراقي يقبل بمختلف الشروط التي تفرض عليه.
2- خصخصة قطاع الكهرباء، لو نسال المواطن العراقي عن اهم امنياته قد تكون الكهرباء في المرتبة الثانية بعد الوضع الامني، لكن الكهرباء لم تتحسن في العراق رغم الوعود الانتخابية المتكررة والاموال الهائلة التي صرفت على هذا القطاع الحيوي (نحو 27 مليار دولار منذ عام 2003 حتى عام 2012)، وبعد كل هذا الانفاق دون اي نتيجة تذكر أجاز مجلس النواب العراقي عام 2012 قرارا بعرض قطاع الكهرباء على الاستثمار الخاص. وتزعم وزارة الكهرباء ان خصخصة قطاع الكهرباء سوف يدر على البلد عائدات مالية تصل الى ستة مليارات دولار، ومن خلال الاستثمار سوف يسدد المواطن فواتير تقل بنسبة 80% من الاموال التي يصرفها على المولدات الاهلية. (والمولدات الاهلية ايضا نوع من الخصخصة التدريجية، لتسهل عملية طرح البديل الذي يكون القطاع الخاص حتما).
3- واخيرا خصخصة التعليم، من خلال ملاحظة عدد المدارس والجامعات الاهلية في العراق يمكن معرفة مستوى الخصخصة الذي وصل اليه هذا القطاع الحيوي في البلد من دون ان يشعر المواطن بذلك، واصبح المال هو اساس التعليم فمن لا يملك المال عليه البقاء في المؤسسات الحكومية التي لا توفر الحد التعليمي الادنى للطالب، ولم يبق من خصخصة التعليم الا قرار وزاري جاء على شكل بيان في السادس من الشهر الجاري، يمهد للسنوات القادمة التي قد يصبح فيها التعليم الحكومي من الماضي، اذ قالت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بيان لها انها تسعى الى جعل التعليم الاهلي رديفا لنظيره الحكومي، من خلال نقل التجارب وتطبيقها من التعليم العام المجاني الى التعليم الخاص.
هذه القطاعات الثلاث هي من اهم القطاعات واخطرها بالنسبة للمواطن، وحتى في الدول المتقدمة التي قطعت اشواطا كبيرة في العمل المؤسساتي لم تذهب الى خصخصة هذه القطاعات الا بعد استقرار نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذا لم يحصل في العراق بعد، بل نبتعد عنوه كثيرا، ومن ثم لا يمكن المقارنة بين تجربة دولة متقدمة استفادت من الخصخصة ودولة لا تزال تقاوم من اجل الانطلاق بالخطوة الاولى نحو التقدم.
الفشل الذي اصاب القطاعات الثلاث المذكورة (البطاقة التموينية، الكهرباء، التعليم) وانخفاض مستوى فعاليتها كان السبب _ بحسب المسؤولين _ لدعوتهم لخصخصتها، باعتبار ان ذلك يمثل طريقا اسرع وافضل لاستعادة فعاليتها وقدرتها على خدمة المواطن. لكن ذلك غير صحيح بسبب الظروف التي يعيشها البلد والتي تتطلب نوعا من المركزية لتجنب الفوضى، والى حين حصول الاستقرار يمكن بحث هذه البدائل رغم ان الاعتماد على الجهد الحكومي لا مناص منه.
الرغبة الجامحة من اجل خصخصة القطاعات الاساسية في العراق بهذه الطريقة تثير الريبة والشك، وهو شك يتعلق بمدى فعالية هذه القرارات وخضوعها للمعايير التي تتوافق مع خصوصية المجتمع العراقي ومصلحة البلد، والثاني هو الشك في وجود مصالح خاصة تدفع من يقفون خلفها، ويدعم ذلك عدد المؤسسات التعليمية التي اسسها نواب سابقون وحاليون في البرلمان ومسؤولون كبار في الدولة.
للقطاع الخاص اسهامات كبيرة وهو يساعد بشكل كبير في بناء الدولة، لكن بعض القطاعات تمثل عصب الحياة للدولة وبدونها يصبح وجود المؤسسات الحكومية غير ذي فائدة، ومن ثم يفترض ان تبقى جميع المؤسسات بيد السلطة المركزية، اما التحجج بالفساد وغياب الدور فالقطاع الخاص اكثر فسادا وجشعا، ولنا في شركات الاتصالات مثالا للدور السلبي للقطاع الخاص، إذ استغلت شركات الاتصالات غياب المنافسة من اجل امتصاص اموال المشتركين في خدماتها مع انعدام تلك الخدمات مقارنة بالإنفاق الكبير للمواطن.
اضف تعليق