q

في حياة الانسان هنالك قيم ايجابية مثل العدل والحرية والمساواة، وطالما بحث الانسان عن مصاديق لهذه القيم تتجسد امامه بشكل ملموس لتكون جزءاً من حياته، ومن خلالها يضمن الحياة الطيبة بعيداً عن الجور والعبودية والاستبداد والاستغلال. وكلما اقترب الى هذه المصاديق وخرج من إطار المعنى والمفهوم (النظرية) كان أقرب الى فرص التغيير واتخاذ القرارات الكبيرة، والعكس بالعكس؛ فاذا بقي في عالم المعنى والتنظير ، فان حياته تتحول الى يأس وإحباط وهزائم نفسية متتالية بسبب التناقضات بين وجود تلك القيم وما يعيشه على أرض الواقع، فتصدق نبوءة النبي الأكرم بأن "تأمروف بالمنرك وتنهون عن المعروف....".

الطغيان السياسي يوسع الفجوة

من اكثر العوامل التي توسع الفجوة بين المعنى والحقائق الملموسة، كرسي الحكم الذي يسعى اليه طلاب السلطة، فاذا واجه هؤلاء تطبيقات عملية وتجسيداً للمعاني والمفاهيم في حياة الناس، لن يتحقق لهم سهولة الوصول الى هذا الكرسي كما يتوقعون، لذا نلاحظ حرص حكام الانقلابات العسكرية منذ العهود الاسلامية الاولى وحتى اليوم، على ممارسة التضليل وتغييب الحقائق او تشويهها ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، كي لا يكتشف الناس من يكون الظالم الحقيقي ومن يكون العادل، ومن تتجسد فيه قيم الفضيلة، ومن يكون عكس هذا، وإلا ما الذي يدفع حاكم مثل معاوية انتقل للتو من مظاهر البدوية والجاهلية، أن يتوسّل بالفكر ينجح في السياسة، عندما روج للقدرية، وفعل المأمون العباسي الشيء نفسه بتبني مذهب الاعتزال، وهكذا حتى وصلنا الى تاريخنا المعاصر.

ويمكن القول؛ أن حكام الجور والاستبداد، منذ تلك العهود وحتى اليوم، لم يكتفوا باتباع وسائل التصفية الجسدية والتهديد والتشريد، بل لجأوا الى الفكر لرسم صور ذهنية معينة تحيد موقفهم بدايةً، وتسلب منهم قوة الإرادة والحركة، ثم تهيئهم للتوجه حيث يريدون، حتى وإن كان في ذلك حتفهم ودمار حياتهم في الحاضر والمستقبل.

ومن أجل ذلك يخصص طلاب السلطة على طول الخط، قسطاً كبيراً من جهودهم وامكانياتهم لخلق الشعارات الفارغة من المحتوى سلفاً، والتي تبعدهم عن واقعهم الفاسد وتمنيهم بالمستقبل الواعد بكلمات مسعولة من قبيل "التقدمية" و"الرفاهية" وغيرها من الكلمات المحببة الى النفوس، وهذا طبعاً ما عشناه – وما نزال- في الوقت الحاضر، فيما كان انسان العهود الماضية مشغولاً بالدراهم والدنانير والعيش الرغيد بعيداً عن مشاكل التصدّي للسلطة الفاسدة.

النهضة الحسينية الحقيقة كلها

إن أهم مكتسبات النهضة الحسينية للأمة، بعث الروح في كل معاني الخير والفضيلة، كما بعث الروح ايضاً في معاني الشر والرذيلة والباطل، فبان كل شيء واضح للعيان، وأسقط كل الحجج التي بناها الأمويون في الاذهان، بمشروعية قتله، وهذا ما توصل اليه الحر بن يزيد الرياحي بعد أن سمع الحجج والبراهين القاطعة التي أدلى بها الامام الحسين، عليه السلام، في ساعات الصباح الاولى ليوم عاشوراء، فاقترب الى عمر بن سعد، وسأله مستنكراً: "أ مقاتل انت هذا الرجل"؟! أجاب: "نعم؛ قتالاً أيسره أن تصيح الرؤوس وتقطع الأيدي..."، ثم كان ما كان من انقلاب موقف الحر وانتقاله الى معسكر الامام الحسين.

واذا كانت الفاصلة بين مصاديق الحق والباطل في أرض كربلاء، ساحة المعركة، فان الفاصلة كانت أقرب بكثير خلال مسيرة السبايا من كربلاء الى الكوفة مروراً بالمنازل والمدن ومن ثم الشام، فقد بين الامام السجاد مع عمته العقيلة زينب، عليهما السلام، وحتى النساء والاطفال، كل الحقائق امام الناس، وكانت رقية ابنة الامام الحسين، الشهيدة الشاهدة على قمة القساوة والغلظة التي يمكن ان تتصف بها النفس الانسانية، لتلتحق بأخيها الطفل الرضيع، وتسجل نقطة مضيئة أخرى في المشاعر الانسانية، بأن الذي يتجاهل مشاعر الطفولة وحقوقها لن يكون جديراً بثقة الناس واحترامهم، فضلاً عن تمكينهم من الرقاب والمصائر وإعطائهم مشروعية الحكم.

وعند هذه النقطة – من جملة نقاط - يجتمع الملايين من الزائرين من شتى أنحاء العالم لتشكيل هذه المسيرة الاربعينية الهادرة كل عام، بل إن القضية جذبت حتى غير المسلمين، كونها انسانية اضافة الى كونها دينية، إذ ليس من السهل تجسيد الظلم في حالة او شخص او فئة، كما ليس من السهل ايضاً الإدعاء بالعدل والفضيلة والاخلاق، وفي هذه المناسبة يجد الجميع ملامح الفرقتين جليّة واضحة من خلال النهضة الحسينية، برموزها ومواقفها وما جرى خلالها من احداث.

فلا مجال للشعارات بالكلمات المنمّقة والتعبيرات الجذابة والمثيرة للمشاعر، إنما الموجود، حقائق الاشياء ناصعة لا تشوبها شائبة، فيكون لزاماً على من يرفع شعارات ذات مضامين انسانية، مثل الحرية والعدالة وتحقيق طموحات الناس ومطالبهم، أن يحذر ألا ينزلق في مهاوي الظلم والطغيان والانحراف والفساد لأنه لن ينجو من الفضيحة والتصدّي من قبل جماهير الشعب، فاذا مارس التضليل، سيجد صورته في معاوية، وإن تمادى في الفساد، وجد صورته في يزيد وهكذا.

اضف تعليق