q

طالما نبحث عن العلاقة الوثيقة بين إظهار مختلف اشكال الحزن على الإمام الحسين، عليه السلام، من بكاء ولطم على الصدور وإدماء الظهور والرؤوس جزعاً على المصاب الجلل، مع سائر اشكال الشعائر الحسينية، وبين تقوى الله –تعالى- فالجميع يتوقعون ممن يقيم الشعائر الحسينية أن يكون من المتقين، وصاحب قلب نظيف ونزاهة نموذجية، كونه يربط سلوكه وأعماله بقضية مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام.

في سورة الحج، ثمة آيات كريمة تتحدث عن أحكام الحج وسمها القرآن بـ "الشعائر"، ومنها الآية الكريمة: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، فهي توثق العلاقة بين شعائر الله –تعالى- وبين التقوى التي لن تكون سوى في القلب.

أن يكون القلب مكمن التقوى؛ مسألة تستوجب التوقف والتأنّي، فقد بين العلماء أن التقوى، مثلها مثل سائر الملكات والخصال النفسية، ترتبط بعُرى وثيقة مع شخصية الانسان، فهي تمثله وتطبع شخصيته في الواقع الخارجي، وهذا ما أضاء اليه سماحة الفقيه الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الشعائر الحسينية"، بأن التقوى، كبقية الملكات والصفات الطيبة، محلها القلب، كما أن الصفات السيئة، محلها القلب أيضاً، ويستشهد سماحته بحديث النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عن التقوى بأنها "ها هنا..." ويشير الى صدره المبارك، بمعنى أن التقوى قبل ان تكون في جوارح الانسان؛ من لسان ويد وعين، تكون في صدره وقلبه، كما هي الشجاعة والكرم والحلم.

وجود التقوى في القلب له مردود ايجابي على الفرد والمجتمع يمكن اختصاره بمسألتين :

الاولى: الثبات والارتكاز في الثقافة والسلوك.

فما ينبت في القلب ليس من السهل تغييره، فـ"الخصلة" عكس "الحالة"، قابلة للتغيير والتحوّل من حال الى آخر، تبعاً للظروف، لذا لا يُعقل أن يتحوّل انسان شجاع الى انسان جبان فجأة، كما لا يُعقل أيضاً، أن يتحول انسان كريم الى انسان بخيل مرة واحدة، بينما نجد التفاعل مع الاحداث العامة في المجتمع، وما تفرزه هذه الحالة من حالات اخرى مثل الاحتجاج او نقيظه؛ التأييد والتصفيق وغيرها كثير، فانها قابلة للتغيير، وربما لا تدوم سوى أيام، فالتصفيق والهتاف بحياة هذا الزعيم او ذاك، يتحول بعدة فترة وجيزة الى لعنات وسباب وتسقيط.

ومن أجل ذلك، يكون الانسان المتقي، فرداً مميزاً ومحورياً في المجتمع، لان دائماً تكون الحاجة اليه، فهو البوصلة والمعيار لكل الفضائل، ومحل ثقة عالية بين الناس.

والمسألة الثانية: الانعكاس على صعيد الواقع، وهذا – لعمري- يجسد أهمية التقوى ودورها وتأثيرها في الحياة، فالصفات الذاتية والباطنية التي تكون جزءاً من شخصية الانسان، لابد وأن تظهر في الواقع الخارجي، فاذا تعرض البلد الى عدوان خارجي، كما حصل في العراق –مثلاً- وكانت الحاجة الى صفة الشجاعة والبطولة في صد هذا العدوان، فلابد من ظهورها اذا كانت حقاً في نفوس الشباب والرجال لتكون محل الفخر والاعتزاز لهذا البلد او ذلك الشعب أمام العالم.

ومن جملة مظاهر التقوى، ما تناولته الآية الكريمة المشار اليها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ...}، فالذي يعظم شعائر الله، يكون بالضرورة حاملاً لملكة التقوى في نفسه، كون شعائر الله –تعالى- تمثل علائم وطرق تهدي الانسان الى الله –تعالى- كما هي الشعائر المذكورة في القرآن الكريم، بخصوص مناسك الحج، وكما هي ايضاً؛ المسجد، فهي شعيرة من شعائر الله، فالذي لا يعظّم المسجد –مثلاً- فهذا دليل عدم وجود التقوى في قلبه، او ربما تكون هذه الخصلة والملكة ضعيفة وغير متجذرة في القلب.

فاذا كان المسجد او الصفا والمروة، وهي من الجمادات، لها هذه القدسية والمنزلة حتى باتت من شعائر الله –تعالى- فان الامام الحسين، عليه السلام، وهو سبط رسول الله، خاتم الانبياء، وكان في يوم عاشوراء، آخر ابن بنت نبي في الارض، لهو جديرٌ بأن يكون خير الشعائر الإلهية، لما يمتاز به من تجسيد للقيم الدينية والانسانية والاخلاقية، وكل ما جاء به الانبياء وما دعت اليه السماء.

وأجدني ملزماً بالاشارة – استطراداً- في هذا السياق الى من يتساءل عن وجاهة تسمية مجالس العزاء والرثاء على مصاب الامام الحيسن، عليه السلام، بأنها "شعائر حسينية" بدعوى الرؤية أن الشعائر المذكورة في القرآن الكريم، خاصة بالفرائض الدينية مثل الصلاة والصوم والحج، كما لو ان إحياء ذكرى عاشوراء والنهضة الحسينية لا علاقة لها بالدين والشريعة!!

من هنا؛ نكون جميعاً أمام الحقيقة الكبرى في أمر الشعائر الحسينية، بأنها تمثل القمة في التديّن والالتزام بالاحكام الشرعية، فضلاً عن القيم الاخلاقية والانسانية التي طالما تعلمناها من مدرسة كربلاء، وهذا الالتزام لن يكون بالإدعاء او التمنّي او من خلال الشعارات، إنما بالتطبيق العملي النابع من الاعماق والمعبر عن إيمان حقيقي ويقين راسخ في القلب.

إن إقامة الشعائر الحسينية في جميع انحاء العالم، لاسيما في عراق المقدسات وتحديداً في مدينة الحسين، عليه السلام، له طابع اجتماعي بارز، حيث تلتحم جهود الشباب في المواكب الراجلة وإعداد التكيات والإضاءات وإعداد الطعام، مع جهود خطباء المنبر الحسيني في طرح الموضوعات المحورية والمهمة، ومع جهود كبار السن في إدارة المواكب وتهيئة المستلزمات، وهذه كلها تمثل فرص ذهبية لاختبار السلوك والاخلاق، والتحقق من مقدار نمو الملكات والخصال الايمانية، ومنها التقوى في القلوب، وذلك من خلال حفظ الجوارح من الزلل، قولاً وفعلاً، وفي كل حركة وسكنة.

اضف تعليق