الشعر الحسيني بشقّيه الفصيح والدارج، أو المكتوب باللغة الفصيحة واللهجة العامية، كان ولا يزال يهدد عروش الحكام الظالمين الذين لا يلتزمون بضوابط الحكم العادل بين أفراد الأمة، وفد تعلم هؤلاء الحكام من تجارب السابقين كيف عليهم تجنّب غضب الشعراء، ولذلك يحاول الحاكم الظالم أن بكسب ودّهم ويقدم لهم الهبات المالية والامتيازات، حتى يضمن تأييدهم له، حتى لو كان ظالما!.
فهناك بالفعل شعراء يمكن أن تشتريهم بالمال والامتيازات، ولكن بالمقابل هنالك شعراء مبدئيون، لا يغريهم المال، ولا تثني عزيمتهم هدايا ومزايا الحكام، هؤلاء الشعراء هم الذين يزرعون الرعب في قلوب الطغاة، فتكون هناك حالة حرب بين الطرفين، غالبا ما تنتهي بقتل الشاعر او نفيه او ملاحقته وتعذيبه وسجنه، لذلك يبقى الشعر سيفا مسلطاً على عروش الطغاة، لاسيما اذا كان مسلحا بالايمان وثبات الموقف.
لذلك على الرغم من اقتران الشعر بالجماليات والفنون، وظهور بعض المدارس تاريخيا.. تدعم المهمة الجمالية للشعر مثل مدرسة (الفن للفن) أو (الدادائية)، وسواهما، إلا أن المهمة الانسانية للأدب عموما وللشعر على وجه الخصوص كانت هي الأبرز والأعم، فإذا كان اهتمام الشعر بالجانب الجمالي موجودا بالفعل وهو أمر لا احد يستطيع إنكاره، فهو يمثل فرعا من الكل الإنساني لمهمة الشعر والأدب.
من هذه النقطة بالتحديد يمكن أن ندخل بوابة مصطلح (الأدب الحسيني)، ثم الدخول الى الفروع التي يتكون منها هذا الكل، فهناك (الشعر والسرد والمسرح الحسيني)، وهذه الفروع كانت ولا تزال حاضرة في الساحة الثقافية، على الرغم من أنها واجهت مصاعب جمة في الحقب القمعية، ولازلنا هنا في كربلاء نتذكر ذلك النص المسرحي الذي حمل عنوان (الحر الرياحي) وما تركه من تأثير على الجمهور الكربلائي عندما غامر عدد من الفنانين الشباب وقدموا هذا العمل على خشبة المسرح، في الحقبة القمعية، مما حدا بالسلطات الى التنبّه لخطورة العرض فاقتصر عرضه على بضعة ايام بعد التفاعل الجماهيري معه.
والسؤال الأهم الذي يُطرح في هذا الميدان، لماذا كان الطغاة عبر التاريخ يرتعبون من الشعر الحسيني، ولماذا يكون رد فعل الحكام الطغاة مصادرة هذا الشعر وتكميم أفواه الشعراء الحسينيين؟، ولعل الجواب لا يحتاج الى كثير من العناء، فالشعر الحسيني يستمد جوهرَه ووجودَه من الفكر الحسيني الرافض للقمع والظلم، لذلك منذ أن بزغ الشعر الحسيني وهو يحمل في كيانه بذرة الرفض لأفعال الطغاة وأفكارهم.
عداء تاريخي بين الطرفين
من هنا نشأ ونما هذا العداء التاريخي بين الشعر الحسيني والحكام الطغاة، لذلك يصف المختصون أن الشعر الحسيني الرافض للطغيان يتأتى من جوهر الفكر الحسيني الذي نجد في رفضه للظلم مصداقا أساسيا له، فلم يسجل التاريخ ولا الواقع أية إشارة أو سند أو دليل مهما بلغ من الصغر على حالة توافق بين الفكر الحسيني وبين حاكم طاغية على مر العصور.. ولا شك أن هذا العداء المبدئي للشعر الحسيني جعله مصدر رعب للطغاة، وفي المقابل مصدر ملاحقة ومحاصرة له لم تتوقف حتى هذه اللحظة.
ومما يثلج الصدر، أن الشعر الحسيني لا يزال يقوم بمهامه على افضل وجه، لاسيما بعد أن وجد الفضاء الحر الذي يناسبه، ولا ننسى هنا دور الشعر الحسيني في (الردّات) التي كانت ولا تزال ترددها الجوقات في المواكب الحسينية، فلطالما أرعبت هذه (الردات العملاقة) قلوب الطغاة ومعاونيهم، لدرجة أن الذعر كان يصيبهم، فلم يكن أمامهم سوى منع هذه المواكب.
ومن الشواهد على ذلك ما كانت تصدح به الحناجر المؤمنة الرافضة للظلم، كما في موكب (طرف العباسية) أو (موكب باب الخان) و (باب السلالمة) فضلا عن المواكب القادمة من عموم مدن العراق ومن خارجه.
وتأتي هنا قصيدة الفرزدق الشهيرة بحق الامام علي بن الحسين (ع)، فهي علامة خالدة بحق أئمة اهل البيت وسبب القصيدة، يُقال أن (هشام بن عبد الملك) حاول (أثناء الحج) أن يلمس الحجر الأسود فلم يستطع من شدة الزحام فوقف جانباً، وإذا بالامام مقبلاً يريد لمس الحجر فانفرج الناس ووقفوا جانباً تعظيماً له حتى لمس الحجر وقبَّله ومضى، فعاد الناس الى ما كانوا عليه. فانزعج هشام وقال: من هذا؟ وصادف أن كان الفرزدق الشاعر واقفاً فأجابه: هذا علي بن الحسين بن علي ثم أنشد فيه قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ...... والبيت يعرفه والحـلُّ والحرمُ
هذا بن خير عباد اللـه كُلُّهمُ ......هذا التقـي النقي الطاهرُ العلمُ
هذا بن فاطمةٍ إنْ كنت جاهله ...... بجـدِّه أنبيـاء اللـه قد خُتموا
ومن بين أبيات هذه القصيدة الكبيرة هذا البيت الكبير:
ما قـال لا قـطّ إلا فـي تشهّده ...... لولا التشهـّد كانـت لاؤه نـعمُ
الصوت الحسيني الهادر
هكذا كان صوت الشعر الحسيني مدويا ومخيفا لأرباب القمع، وهذا الأمر رأيناه بأنفسنا، أما عندما نتوغل في بطون التاريخ الشعري، فإن هناك أسماءً لامعة خلدتها أشعارها الحسينية الانسانية، فهل يمكن ان يُنسى (دعبل الخزاعي) الذي طالما كان يردد جملته الشهيرة – اربعون سنة احمل خشبتي على ظهري ولم اجد من يصلبني عليها- وثمة شعراء كثيرون منهم من غير العرب ومن غير المسلمين..
إن الحاكم ربما يستطيع التفاهم مع أحزاب معارضة له من خلال منحها بعض الهبات او المناصب البسيطة، كذلك يمكنه أن يغري شخصيات سياسية ترغب بالسلطة والجاه والأموال من خلال عقد صفقات توافقية معهم، ولكنه لا يستطيع أن يزحزح موقف الشاعر المؤمن بقضيته كما هو الحال مع الكثير من الشعراء الحسينيين على مر التاريخ، فالشاعر المؤمن بقضيته، من خلال المبادئ والعقيدة التي ترسخ في عقله وقلبه بعد قناعة تامة، لا يستطيع الحاكم او معاونوه على استمالة الشاعر له مهما بذلوا من جهود في مجال الترغيب والمزايا والعطايا، او من خلال الترهيب والملاحقة والإقصاء وما شابه.
لهذا السبب بقي الشعر الحسيني صوتا مدوّيا على مدى التاريخ منذ ان استشهد الامام الحسين (ع) وحتى هذه اللحظة، وإلا ليس هناك سبب يدفع الحاكم الى منع الشعائر الحسينية، ويغلق الحسينيات والمساجد والمدارس والمؤسسات الخيرية التي تقدم خدمات جليلة للمحتاجين من افراد الشعب، مع انها من مهمات ومسؤوليات الحكومات، ولكن حتى هذه الاعمال الخيرية يتم رصدها ومنعها، فكيف بالشعر الذي يهز عروش الحكام من خلال القصائد الحماسية التي تحرك الجماهير وتستثير مشاعرها وتفجر طاقاتها.
لقد بلغ صيت المواكب الحسينية مبلغا لا حدود له، وبلغ الشعراء الحسينيون مكانة لم يبلغها غير الأباة الأبطال في مواقفهم المبدئية وتمسكهم بالعقيدة مهما كانت النتائج، هذا ما عرفناه في مواكب شهيرة عرفتها كربلاء المقدسة في اشد مراحل الظلم والطغيان، ومن دون ادنى الشك، ان الفضل يعود للشعر الحسيني، وللشعراء الذين قدموا ارواحهم فداءا للامام الحسين (ع) مقتدين به ورافضين لظلم الحكام، فكانت صرخة الشعر الحسيني تهز عروشهم، وسيبقى دور الشعر الحسيني قائما الى الأبد، متربصا بظلم الحكام اذا تنكّروا للعدل الذي نادى به الحسين (ع)، وقدم دماءه وروحه قربانا لحرية الأجيال الإسلامية على مر الدهور.
اضف تعليق