أولى الائمة المعصومون (عليهم السلام) زيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام) عناية فائقة واهتمام خاص وحثوا شيعتهم على إداء هذه الشعيرة المقدسة والتأكيد عليها في كثير من الموارد، وقد وردت في ذلك الكثير من الاحاديث والروايات عنهم (عليهم السلام) في فضل زيارة الحسين والثواب الجزيل الذي يصيبه زائره بزيارته، من هذه الأحاديث ما روي عن الامام الباقر (عليه السلام): (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين فان إتيانه مفترض على كل مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من الله عز وجل)، وفي حديث آخر له (عليه السلام) أيضاً عندما سئل ما لزائر الحسين من الثواب؟ فقال عليه السلام: (يؤمنه الله يوم الفزع الأكبر وتلقاه الملائكة بالبشارة ويقال له: لا تخف ولا تحزن هذا يومك الذي فيه فوزك).
كما جاءت الروايات بأسانيدها الصحيحة عن النبي (ص) وأهل البيت (عليهم السلام) أن الله عوّض الحسين عن شهادته وتضحيته (بأن كان الشفاء في تربته وجعل الأئمة من ذريته واستجابة الدعاء عند قبته)، و(أن الله ينظر الى زوار قبر الحسين عشية عرفة قبل أن ينظر إلى حجاج بيته الحرام) ذلك لأن الحسين حفظ حرمة البيت الحرام، فقد قال لابن عباس عندما خرج من مكة المكرمة قبل أن يتم حجه يا ابن عباس لو لم أخرج لهتكت حرمة البيت.
وجاء عن الإمام الباقر (ع): (إن الحسين قتل مظلوماً فآلى الله أن لا يأتي قبر الحسين مظلوم إلّا تكفل برد مظلمته، وأن الحسين قتل مهموماً حزيناً كئيباً فآلى الله أن لا يأتي قبر الحسين مهموم إلا فرّج عنه).
الى أمثال هذا كثير وكثير فكانت الشيعة ولا تزال تقصد زيارة قبر الحسين(ع) من البلدان النائية والأقطار البعيدة فدأب الأئمة (عليهم السلام) على الدعاء للزائرين، فمن دعاء طويل للإمام الصادق (عليه السلام) في سجوده نقتطف منه هذا المقطع ليتبين لنا مدى الاهتمام الذي أولوه (عليهم السلام) بهذه الشعيرة والدعوة إليها يقول عليه السلام: (اللهم اغفر لي ولإخواني وزوار قبر الحسين الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ورجاءً لما عندك في صلتنا وسرورا أدخلوه على نبيك).
ودأبت الشيعة منذ استشهاد الامام الحسين عليه السلام على جعل الصلة نابضة وحية ومستمرة بينهم وبين كربلاء، ويدلنا قول عقبة بن عمرو السهمي على أن قبر الحسين لم يزل منذ استشهاده مهوى القلوب وكعبة الوفاد يقول عقبة:
مررتُ على قبرِ الحسينِ بكربلا *** ففاض عليه من دموعي غزيرُها
وما زلتُ أبكيه وأرثي لشجوه *** ويسعد عيني دمعُها وزفيرُها
وبكّيتُ من بعد الحسينِ عصائباً *** أطافت به من جانبيه قبورُها
اذا العين قرّت في الحياةِ وأنتم *** تخافون في الدنيا فأظلم نورُها
سلامٌ على أهل القبورِ بكربلا *** وقلّ لها مني سلامٌ يزورُها
سلامٌ بآصالِ العشي وبالضحى *** تؤدّيه نكباءُ الرياحِ ومورُها
ولا برحَ الوفّاد زوّار قبره *** يفوح عليهم مسكُها وعبيرُها
وقد أجمع السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعةج41) والطريحي في المنتخب وسبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص) على أن هذه الأبيات هي أول ما قيل من الشعر في رثاء الحسين(ع) وعقبة هو من شعراء المائة الأولى من الهجرة ويدلنا البيت الأخير من شعره على أن قبر الحسين كان لا يخلو من الزائرين منذ الأيام الأولى لاستشهاده فكان التوابون يقيمون المآتم عند القبر يقول الجواهري في رائعته (آمنت بالحسين)
وطفتُ بقبركَ طوفَ الخيال *** بصومعةِ الملهمِ المبدعِ
وخلتُ وقد طارت الذكريات *** بروحي إلى عالمٍ أرفعِ
تلوذُ الدهورُ فمن سجدٍ *** على جانبيه ومن ركعِ
ومن أهم الزيارات المخصوصة التي أكد عليها أئمتنا الطاهرون لقبر الإمام الحسين هي (زيارة الأربعين) حيث وردت روايات كثيرة عن الائمة المعصومين(ع) في خصوصية يوم الاربعين وفضل زيارة الحسين في ذلك اليوم ففي مستدرك الوسائل للنوري (ص 215 باب 94) عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله الصادق(ع) إنه قال: (إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً وما اختضبت امرأة منا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده). وروي في كامل الزيارات (ص 90 باب 28) عن الامام محمد الباقر (ع) إنه قال: (إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً). أما زيارة الامام الحسين يوم الأربعين فقد وردت في أحاديث عن الأئمة المعصومين(ع) في فضلها منها ما روي عن الإمام الحسن العسكري(ع) أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين؛ وزيارة الأربعين؛ والتختم باليمين؛ وتعفير الجبين).
أما الزيارة المشهورة في يوم الأربعين والمعروفة بـ (الأربعينية) فقد رويت على روايتين الرواية الأولى رواها صفوان الجمال عن الامام الصادق(ع) فقال: قال لي مولاي الصادق: تزور الحسين عند ارتفاع النهار وتقول.. ثم تلا الزيارة.
أما الرواية الثانية: فقد رويت عن عطا عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: كنت مع جابر يوم العشرين من صفر فلما وصلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها ولبس قميصاً كان معه طاهراً ثم قال لي: أمعك شيء من الطيب يا عطا؟ قلت: سعد، فجعل منه على راسه وسائر جسده ثم مشى حافياً حتى وقف عند راس الحسين وكبّر ثلاثاً ثم خرّ مغشيّاً عليه فلما أفاق سمعته يقول:.. ثم تلا الزيارة.
وقد ذكر الكثير من العلماء الأعلام فضل زيارة الحسين في يوم الأربعين وقد استدلوا في ذلك على روايات الائمة المعصومين منهم:
1 ـ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في التهذيب (ج 2 ص 17) باب فضل زيارة الحسين (ع) فانه بعد ان روى الأحاديث في فضل زيارته (ع) ذكر المقيد منها بأوقات خاصة وذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث نقل عن مصباح المتهجد ص (551) ثم قال: وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد الله الحسين(ع) من الشام الى مدينة الرسول(ص) وورود جابر بن عبد الله الانصاري إلى كربلاء لزيارة ابي عبد الله الحسين(ع) فكان أول من زاره من الناس وهي زيارة الأربعين ثم روى حديث الإمام الحسن العسكري(ع).
2ـ ابو الريحان البيروني في الاثار الباقية (ص 331): في العشرين من صفر رد الراس الى جثته فدفن معها وفيه زيارة الأربعين ومجيء حرمه بعد انصرافهم من الشام.
3ـ العلامة الحلي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحج: يستحب زيارة الحسين في العشرين من صفر ثم روى حديث الامام العسكري(ع).
4ـ العلامة المجلسي في البحار باب فضل زيارة الحسين يوم الأربعين.
5ـ السيد ابن طاووس في الإقبال.
6 ـ الشيخ يوسف البحراني في الحدائق في الزيارات بعد الحج.
7 ـ الشيخ المفيد في مسار الشيعة.
8 ـ العلامة الحلي في التذكرة والتحرير.
9 ـ ملا محسن الفيض في تقويم المحسنين.
10 ـ الشيخ البهائي في توضيح المقاصد (الأربعين).
11 ـ الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان.
وتأتي خصوصية زيارة (الأربعين) أيضاً في استذكار المآسي والآلام والفواجع التي جرت على سبايا أهل البيت(ع) حيث تتزامن اقامة الشعائر الحسينية في يوم الاربعين مع ذكرى رجوع الرأس الشريف من الشام الى العراق، ودفنه مع الجسد الطاهر في يوم العشرين من صفر كما جاء في الروايات، ويسمى هذا اليوم في العراق ((مَرَد الراس)) فتقام الشعائر استذكارا لهذه الحادثة الاليمة فتتجدد الاحزان.
فقد تواترت الروايات على أن السبايا بعد أن أخرجوهم من الشام توجهوا الى كربلاء فوصلوها يوم العشرين من صفر، فوجدوا جابر بن عبد الله الانصاري الصحابي، ومعه جماعة من الشيعة توافدوا لزيارة قبر الحسين، فالتقى ركب السبايا معهم وأقاموا البكاء والنحيب.
وقد نصت على ذلك العديد من الكتب المعتبرة، فقد جاء في موسوعة آل النبي (ص747)، في وصف الرحلة من الشام الى المدينة:
(قالت زينب (ع) للدليل مرة: (لو عرجت بنا على كربلاء) فأجاب الدليل محزوناً: أَفعل، ومضى بهم حتى أشرفوا على الساحة المشؤومة وكان قد مضى على المذبحة يومئذ أربعون يوماً، وما تزال الأرض ملطخة ببقع من دماء الشهداء وبقية من أشلاء غضة عفا عنها وحش الفلاة، وناحت النوائح وأقمن هناك ثلاثة أيام لم تهدأ لهن لوعة ولم ترقأ لهن دمعة ثم أخذ الركب المنهك طريقه الى مدينة الرسول.
وتقول الروايات أيضا: إن يزيد أمر برد السبايا والأسارى من الشام الى المدينة المنورة في الحجاز مصطحبين بالرؤوس تحت إشراف جماعة من العرفاء يرأسهم النعمان بن بشير الانصاري، فلما بلغ الركب أرض العراق في طريقه الى مدينة الرسول قالت زينب للدليل: مر بنا على طريق كربلاء ومضى بهم حتى أشرفوا على ساحة القتل المشؤومة وكان جابر بن عبد الله الانصاري الصحابي الجليل وجماعة من بني هاشم ورجال من آل الرسول قد وردوا العراق لزيارة قبر الحسين، يقول السيد علي بن طاووس في كتابه اللهوف في قتلى الطفوف (ص 86): (فتوافدوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد واجتمع عليهم أهل السواد وأقاموا على ذلك أياما).
وكان جابر بن عبد الله الانصاري قد توجه من المدينة المنورة نحو أرض كربلاء بعد أن سمع بمقتل الإمام الحسين(ع) ـ وكان قد كف بصره ـ يقول عطية العوفي وكان مرافقاً لجابر: (عندما وصلنا الى الغاضرية على شاطئ نهر الفرات اغتسل جابر في شريعتها ولبس أطهر ثيابه، ثم فتح صرة فيها سعد ـ أي عطرـ فنشرها على بدنه ثم لم يخط خطوة إلّا ذكر الله تعالى حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه ياعطية، فألمستُهُ إياه، فخرّ على القبر مغشياً عليه فرششت عليه من الماء فلما أفاق قال: يا حسين ـ ثلاثاـ ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال وأنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك، وفرّق بين بدنك وراسك، أشهد أنك ابن خير النبيين وابن سيد الوصيين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس اصحاب الكسا وابن سيد النقبا وابن فاطمة سيدة النسا.. الخ.
الى أن تقول الرواية: ثم أنهم رأوا غباراً من بعيد دلالة على قدوم أشخاص وكان من ناحية الشام فمضى عطية ليرى من هم القادمون من ناحية الشام فما أسرع أن رجع وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين قد جاء بعمّاته واخواته، فقام جابر حافي الاقدام مكشوف الراس الى أن دنا من الامام زين العابدين (ع) فحدّثه الإمام بما جرى لهم من قتل وسبي وتشريد وكان مما قاله (ع): (يا جابر هاهنا والله قُتلت رجالنا وذُبحت اطفالنا وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا).
ومنذ ذلك اليوم وهو العشرين من صفر أصبح هذا التاريخ مشهودا فتتوافد الملايين من الزائرين على كربلاء لزيارة الامام الحسين وإقامة الشعائر وتجديد هذه الذكرى المؤلمة.
اضف تعليق