نهضة الإمام الحسين كبيرة في معانيها، وعظيمة في مأساتها، فأحداث عاشوراء مأساة تخترق القلوب، فأي إنسان يسمع بهذه المأساة يتزلزل قلبه فينفتح لها، ويشعر بعظمة هذه المأساة، وعندما ينفتح قلبه، سوف ينفتح عقله لاستقبال المعاني العظيمة التي تقترن بها لذلك فهي من أعظم النهضات في التاريخ...

ظهرت في التاريخ ثلاث نهضات كبرى كان لها تأثير كبير في حركة التاريخ، اثنتان منهما من الماضي، والثالثة من المستقبل:

الأولى: بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله.

الثانية: نهضة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

الثالثة: تحدث في المستقبل وهي نهضة الإمام الحجة صلوات الله عليه وعجل الله فرجه الشريف.

هذه النهضات الثلاث تمضي نحو هدف واحد وغاية مثلى.

 والتاريخ له بعدان، وهما التاريخ المادي والتاريخ المعنوي.

التاريخ المادي يكتبه الحكام والملوك، أما التاريخ المعنوي فيكتبه الأنبياء والأئمة عليهم السلام، والتاريخ المادي لا قيمة له، وإن كان كبيرا وضخما في إنجازاته العمرانية، وابنيته وآثاره وتكنولوجيته، ما لم يكن مرتبطا بالتاريخ المعنوي، لأن التاريخ المعنوي هو الذي يصنع الحضارة المادية السليمة الصحيحة، وإلا فإن الحضارة المادية والتاريخ المادي الذي يكون خاويا من المعاني الإلهية ومعاني الأنبياء والائمة (عليهم السلام) لا قيمة له، لأن هذا النوع من التاريخ المادي سوف يقود الإنسان والأمم إلى الانهيار والسقوط والاضمحلال.

حتمية الأسباب والمسببات

ان فلسفة التاريخ هو حركة مستمرة للفعل الإنساني والإرادة الإنسانية، والتاريخ البشري سيال ممتد يتشكل من نتائج الفعل الإنساني وارادته، وهو صراع بين إرادة الخير والشر، والحق والباطل، فالحق يقوده الأنبياء والأئمة عليهم السلام، والشر يقوده كثير من الحكام والملوك الذين خرجوا عن السيرة الإلهية.

وجوهر التاريخ الذي يحدد مصير الإنسان يقوم على نظام حتمي وهو الأسباب والمسببات وهو أنه لكل فعل يقوم به الإنسان مهما اختلفت الظروف سوف يخرج بنفس النتيجة، فالإنسان الذي يكون فاسدا سوف يؤدي إلى الانهيار، والإنسان الذي يكون صالحا يؤدي إلى ارتقاء الإنسان.

الخير والشر، والأمور المنبثقة منهما هي أسباب ومسببات تؤدي إلى نفس النتيجة وإنْ اختلفت المظاهر والأشكال والحقب الزمنية. فالتاريخ يعتمد على سنن وقوانين ثابتة تسري في مختلف الظروف المكانية والزمانية وينتج الآثار نفسها بشكل كلي وان اختلفت التفاصيل، لذلك فان الوقائع لم يكن بالإمكان ان تحدث بصورة مختلفة، وانه لو كانت الأسباب نفسها تعمل في مكان اخر ما كانت لتستطيع ان تحدث إلا الآثار نفسها. فالتاريخ هو تطبيق لسنن الله في الكون وهي حركة ذات علية وسببية: 

(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) فاطر 43.

وقد كشفت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن أولئك الذين انقلبوا على سنن الله في الخير والحق بقولها: (وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِ الدِّينِ الْجَلِيِّ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ)، فالأمم تتقدم بالسعي والعمل والخير والحق، (ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الأعراف 96، وتنهار عندما تركن الى الباطل والظلم والشرور والرذائل، ترتضي السهولة والرخاء وتكسل عن الفعل والاجتهاد لأنها وصلت الى قمة الذروة في اللذة والترف والوقوع في المعاصي بحيث تفقد الدافع للاستمرار وتفقد إرادتها الإيجابية للبناء: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) الإسراء 16.

الامام الحسين (عليه السلام) وبناء الوعي

فالنهضة الحسينية هي في عمق وصميم حركة التاريخ لتحقيق إرادة إلهية للخير والإصلاح في مقاومة الفاسدين. فالطغيان والاستبداد والاستعباد يحاول أن يجعل من البشر لا شيء، عبر سلب جوهرهم بجعلهم مستعبَدين، مجرد أدوات مادية استهلاكية، غرائزية تعيش في الفساد وتنغمس في الجمود التاريخي بالترف والمتعة واللذة وطاعة الحاكم المستبد. فعن الامام الحسين (عليهم السلام): (الناس عبيد المال، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون).

فالإمام الحسين عليه السلام، حركة ممتدة من حركة الأنبياء كما نقرأ (السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَلِيمِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ الله)، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا).

وهذه دلالات على أن هذه الحركة هي حركة الأنبياء، وهي حركة واحدة من أجل بناء وعي الإنسان، وجعله حيًّا في وجوده، وبالتالي احياء المجتمعات والحضارات.

اضمحلال الحضارات والامم

وإلا فإن الحضارات التي تقتصر على المتعة والفساد والطغيان، فإنها سوف تذهب بالنتيجة نحو الاضمحلال والموت والسقوط.

 (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) {المؤمنون/44}

فقانون الاضمحلال الحضاري الذي ذكره القرآن الكريم، وأنه هناك عمر خاص لكل أمة، بسبب عدم اعتبار افراد المجتمعات والأمم من التجارب السابقة وانقلابها على قوانين وسنن الحياة، فتسير نحو هلاكها عبر التآكل والاضمحلال، كالإنسان الذي لايبالي بشروط الصحة وانماط الحياة السليمة فيصاب بالأمراض التي تأخذه نحو الموت او تدريجيا او دفعة واحدة.

(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) الكهف 59.

والنجاة في ذلك المصير بالاستغفار والرجوع الى الله تعالى والعمل بالسنن الإلهية، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) هود 52.

النجاة من الهلاك والاضمحلال

ومن السنن الإلهية في النجاة من الهلاك والاضمحلال هو زيارة الامام الحسين (عليه السلام) فعن الامام الكاظم (عليه السلام): (من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، لان نهضة الإمام الحسين عليه السلام هي إحياء للدين، وإزالة للبدع، وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ذلك في رسالته بعثها لأهل البصرة: (فان السنة قد أميتت والبدعة قد أحييت)، فهذا الإحياء من الموت الحضاري هو جوهر النهضة الحسينية، وتحرير الإنسان من كل أنواع الاستعباد، والاستبداد الذي يتعرض له.

لماذا النهضة الحسينية اعظم النهضات؟

إن نهضة الإمام الحسين عليه السلام هي نهضة كبيرة في معانيها، وعظيمة في مأساتها، فأحداث عاشوراء مأساة تخترق القلوب، فأي إنسان يسمع بهذه المأساة يتزلزل قلبه فينفتح لها، ويشعر بعظمة هذه المأساة، وعندما ينفتح قلبه، سوف ينفتح عقله لاستقبال المعاني العظيمة التي تقترن بها نهضة الإمام الحسين عليه السلام. 

لذلك فإن هذه النهضة تعد من أعظم النهضات التي أثرت في تاريخ البشرية، ربما نحن الآن لا نشعر بهذا الأمر، لأن الكثير من الأمور التي تتعلق بنهضة عاشور لم تتضح بعد، ولم تصل إلى كافة الناس، لذا لابد من إيصالها إلى الآخرين، وعندما تصل هذه النهضة إلى مختلف الناس يبدأ هؤلاء يشعرون بمعاني وعظمة القيم الموجودة في نهضة عاشوراء، وكيف يتحرر الإنسان من تلك الحياة المملة المأساوية التي يعشيها.

ونقصد بها المأساة المادية، مأساة الخضوع للمادة والترف والعيش في العالم المادي المحض، هذه الأمور سوف يتحرر منها الإنسان عندما يستمع الى كلمة الإمام الحسين عليه السلام: (الناس عبيد المال، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون)، فالإمام الجسين عليه السلام أراد أن يُخرج البشر من حالة الاستعباد، وينتشل الإنسان من ذلك الضياع، حيث العالم المادي يسيطر على البشر بصورة كبيرة جدا، وأصبح البشر على الرغم من التطور المادي في المجالات المختلفة، غارقا بالأزمات والكوارث، أزمات نفسية واجتماعية مختلفة، مختزلة في العبودية للدنيا.

إن المشكلة الموجودة عند معظم البشر، أنهم يرضخون للشيطان والطاغوت بالانغماس في مصالحهم الشخصية، في تيار معاكس للحركة الإلهية في التاريخ، وهي حركة تقوم على تحقيق المصلحة العامة للبشر من حيث الحرية والكرامة، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان كريما حرا في حياته، ويأتي الطاغوت والشيطان من أجل إغوائه وإدخاله في إطار الاستعباد الدنيوي.

وعن الامام الحسين (عليه السلام): (ﻻ أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق).

 لذا فإن النهضة الحسينية أتت من أجل تحرير هذا الإنسان وترسيخ كرامته الحقيقية، وبعدها المعنوي، لأن الحياة قائمة على امتحان الإنسان وابتلاء الإنسان حتى يتقدم في حياته، ويتعرض ويتعلم للوصول إلى العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى.

عبادة الامام زين العابدين (عليه السلام)

وعندما نستذكر استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام، نجد انه يركّز على العبادة، لقد أراد أن يثبت بأن الإنسان الحقيقي تكون عبوديته لله سبحانه وتعالى فقط، ولا عبودية أخرى لغير الله الله سبحانه. فإذا كان هذا الإنسان عبدا لله سبحانه وتعالى فقط، ويخاف منه فقط، فهو يكون حرا كريما في حياته، مستقلا ويشعر بوجوده، فالإنسان في هذه الحياة أنعم الله سبحانه عليه، بالنعم الكبيرة، ولا يمكن أن يشعر بوجوده الحقيقي، وبقيمته في الحياة، الا من خلال تحريره والشعور بكرامته.

لماذا تسقط المجتمعات؟

إن البشاعة الموجودة في حياتنا هي بشاعة الظلم والمعصية، وتسقط المجتمعات والحضارات كما نقرأ في القرآن الكريم بسبب الاجرام والإفساد والايغال في المعاصي.

فالإنسان عندما ينحرف ويخرج عن الطريق، سوف يؤدي به ذلك إلى سلوك قوانين وسنن ليست صحيحة، غير الأسباب التي وُضعت، الله سبحانه وتعالى وضع قانونا للحياة، الآن لو بحثنا في أي علم، في الفيزياء أو في الكيمياء، وفي أي علم آخر نجد في كل علم قوانين، العالم بهذه القوانين إذا عرف كيف يستكشف القانون ويفهمه سوف يؤدي به ذلك إلى أن يصل للنتيجة ويخترع شيئا ويكتشفه ويصل إلى شيء.

كذلك فإن الحياة الاجتماعية السياسية الاقتصادية قائمة على مجموعة قوانين أساسية، مثلا العدل جميل وصحيح وسليم، أما الظلم فهو قبيح وبشع، هذا قانون متَّفق عليه، فالحكومة التي تأتي وتقول لابد أن أقمع الشعب وأمارس القوة والقمع ضد الشعب، حتى أتحكّم به وأنشر الأمن، هذه النتيجة خاطئة، لأنها مغالطة.

يُقال من حق الدولة أن تمارس العنف أو تحتكر العنف من أجل تحقيق الأمن، ولكن هذه مغالطة، فالأمن لا يتحقق بالعنف، الأمن يتحقق بمداراة الشعب وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والانصاف وتكافؤ الفرص، فهذه قوانين وسنن، فأهل البيت عليهم السلام وخصوصا الإمام الحسين عليه السلام الذي أراد أن يحيي سنن الحياة الصحيحة السليمة.

والانحراف عن تلك السنن يؤدي الى سقوط الانسان والمجتمع كما قالت السيدة الزهراء سلام الله عليها: (وأهمِدَت سنن النبي الصفي)، أهمدت بمعنى أُطفِأت، وعُتِّمَ عليها، هذا التعتيم الذي حدث أدى إلى الانحراف الكبير الذي حصل في الأمة، فما دامت لم تسلك السنن الصحيحة لا تصل إلى الطريق المستقيم.

الحياة بالغاية والمعنى

سنن أهل البيت عليهم السلام، هي التي توصلنا إلى الصراط المستقيم، هذا هو الهدف والغاية عندما تقرأ الخطاب الحسيني، (إني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا أرى الحياة مع الظالمين إلا برما). الإمام الحسين لا يدفعك نحو الموت ولكن لكي يوضح لك كيف تكون حيا سعيدا من خلال الحرية والتحرّر، وأن العيش مع الظالم هو موت.

 برما تعني الضجر والملل، وشقاء الإنسان قائم على الضجر، وهو يعني الحياة بلا جدوى وبلا معنى وبلا غاية، هذا هو سلوك الطواغيت والظلمة، ومثال على ذلك هي الشركات الاستهلاكية التي هدفها جعل الإنسان يعيش في عالم استهلاكي محض وكله قائم على الضجر والملل.

المادة لا تشبع الإنسان، لأن الإنسان ليس حيوانا مجردا من المشاعر، الإنسان عنده عقل وله قيمة وله روح، ونفس ومشاعر، هذه المشاعر الموجودة عند الإنسان، إذا خُدِشَت قليلا يتأذى هذا الإنسان ويتألم، فكيف إذا سلبت منه هذه المشاعر وجعلته مجرد جسم أو جسد لا قيمة له.

اختلاق الإسلام المزيف

إننا حين نلاحظ سيرة الطغاة والحكام الفاسدين والظالمين، فإن هناك حاكما يقول بوضوح بأنه حاكم فاسد، ولكن هناك حاكم (وأغلبهم هكذا)، لا يقول بأنه فاسد بل يقول إنه حاكم عادل، ويستخدم الخداع ويضلل الناس ويحرف الحق، ويحرف الكلام عن موضعه، ويمارس سياسات التضليل، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى تحريف الواقع واختلاق الحقائق.

بنو أمية عندما استولوا على الحكم أرادوا أن يصنعوا عقائد وأفكارا منحرفة بعنوان انها تمثل الإسلام، في عملية تضليل واسعة، فاختلقوا الأحاديث وأتوا بالكذابين، لاصطناع إسلام مزيف، يعملون به على طريقتهم.

الإمام الحسين عليه السلام، جاء وكشف هذا الزيف، من خلال عمق المأساة الموجودة، التي اخترقت المجتمع المحجوب والمعتم عليه بالظلام والمغلف بالضلالات، حيث لا يمكن أن يُكشف التضليل إلا من خلال مأساة عظيمة، وهذه تضحية كبيرة قدمها الإمام الحسين عليه السلام، ترسخت في عمق الضمير الإنساني بعد ان حطمت جدران الجهالة.

هذا الضمير عندما يعود إلى نفسه، ويبتعد عن التدليس والتحجيم والتضليل يكتشف الحقائق، لذلك نلاحظ أن الظالم الفاسد دائما يحارب الشعائر الحسينية، بمختلف الأساليب، ولكن دائما نرى قيمة الحق وقيمة العدل تكون أقوى، حتى الإنسان الظالم المنحرف نفسه، يعرف بأنه خاطئ ولكن بالنتيجة قد أخذه الشيطان مأخذا.

لذلك فإن النهضة الحسينية هي تحرير للإنسان من ذلك التضليل وذلك التزييف، فهي معركة، فكرية حادة لكشف التضليل والتزييف الملبس بجعل الباطل حقا وجعل الحق باطلا، وهذا هو معنى تزييف التاريخ، من أجل أن يجعل الحاكم لنفسه شرعية خاصة به يحكم الناس بتلك الطريقة، ولذلك نلاحظ الآن الكثير من الشعوب يعيش الخنوع والخضوع والاستعباد بسبب تلك الأفكار الموجودة في فكر الإنسان على طول تراكم الأفكار السلبية الميتة في المجتمعات.

وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (لا يفلح من لا يعقل ولا يعقل من لا يعلم).

فالخائف دائما يعتبر الحاكم شرعي، لانه هو الذي يحقق له الأمن والرفاه من دون أن يعرف من هو هذا الحاكم، هل هو فاسق او فاسد أو ظالم أو مجرم، وهذا هو التزييف الذي يؤدي إلى السقوط والنهاية السيئة.

وعن الإمام الحسين عليه السلام: (فإنّما أنتم من طواغيت الأمّة وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرِّفي الكتاب، ومطفئ السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمّة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين)، ومعنى القرآن العضين، انهم يأخذون بالقرآن على مزاجهم وعلى قدر ما يستفيد منه، مما يؤدي الى الاستهانة بالمعاصي، بتحليل الحرام وتحريم الحلال.

فالإنسان من أجل مصالحه الدنيوية يفعل كل شيء، فيريد أن يلهو ويريد أن يتخلص من المسؤولية، ويريد أن يعيش وحده، لا توجد عنده مسؤولية اجتماعية او إنسانية او دينية، يعيش لوحده، وكما يشاء، لا يحترم أحدا، وليس عنده كرامة لا لنفسه ولا للآخرين.

وهذه الازدواجية قد أصبحت مترسخة في النظام العالمي، والعمل بقيم حقوق الانسان بقدر تسيير وحماية مصالحهم، يستخدمون حقوق الإنسان من أجل غسيل أنفسهم وتلميع وجوههم، فالاستعمار قام بجرائم كبيرة وأبادوا شعوبا كاملة، وما زالوا، ومع ذلك يستخدمون حقوق الإنسان ذريعة لتحقيق مصالحهم.

الزيارات حركة تاريخية معرفية

لذلك فإن من أهداف حركة التاريخ الإلهية هي إرجاع الإنسان إلى الطريق المستقيم، وتخليصه من المزاجية الازدواجية عبر الاستفادة من سنن الله سبحانه وتعالى، وأهل البيت عليهم السلام، ومن تلك نماذج الحركة التاريخية التقدمية الزيارات التي أوصانا بإحيائها الأئمة عليهم السلام، فمثلا زيارة الأربعين، زيارة عاشوراء، زيارة عرفة، زيارة النصف من شعبان، هذه الزيارات العظيمة تعمل على إرجاع الإنسان إلى الطريق المستقيم بشكل عملي، (من أتى الحسين عليه السلام عارفا بحقه، غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر)، هذا التوجيه للأئمة عليهم السلام، هو إحياء للنهضة الحسينية واستمرار لها، و(عارفا بحقه)، يدل على ان المعرفة هي جوهر التحرير في حركة التاريخ الحسينية (ومثلي لا يبايع مثله). فالمعرفة هي معرفة بالقوانين والسنن التي قامت عليها النهضة الحسينية، أن نكون احياء وسعداء، وأن يكون أبناؤنا صالحين بررة، لا ينحرفون، فهذه الزيارات من أجل إحياء نفوسنا، وتجديد أفكارنا، وتصحيح حياتنا وطريقة عيشنا، لذلك (غفر الله من ذنبه ما تقدم وما تأخر) فالتصحيح في حياتنا لايتحقق الا بالاستقامة المستدامة.

دور الاستنقاذ في حركة التاريخ

من يلتزم بتلك القيم والسنن والقوانين الحسينية، سوف تكون حياته صحيحة وتتغير نحو الأحسن، وزيارة الأربعين تعطينا خلاصة لمعنى الحركة التاريخية: ((فَأَعْذَرَ فِي الدُّعَاءِ، وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلَالَةِ)، وكلمة الاستنقاذ عبارة عميقة تعبر عن المعنى الوجودي في فلسفة التاريخ. لا يقول في الزيارة إنقاذ وإنما استنقاذ، وهي أكثر بلاغة في المعنى المطلوب، فهو يعني حركة وعمل وفعل وجهد وسعي، بعملية نقل واسعة من الجهل والحيرة والشك والارتياب والضلال والانحراف، إلى الطريق المستقيم، إلى الهدوء والطمأنينة والامن والسلامة.

 لذلك فإن حركة النهضة الحسينية تبقى مستمرة، ومستقيمة من خلال استقامة حركة الاستنقاذ، بـ (ومنح النصح)، والنصيحة هو ارشاد وهداية إلى الصواب، (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) الأعراف 68، فالأمم تسقط بتمردها على النصيحة وكذلك الافراد، وقد منحهم الامام الحسين (عليه السلام) نصيحته: (ألا ترون إلى الحق ﻻ يعمل به، وإلى الباطل ﻻ يتناهى، عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً فإنّي ﻻ أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

(وبذل مهجته) بالعطاء والخروج من حالة الأنانية، وقيمة العطاء تكون عظيمة عندما يكون معنويا في آثاره بما يصل إلى حالة الاستنقاذ.

التحرر من التبعية والاستيراد الثقافي

أصبحت الكثير من المجتمعات تابعة للغرب ومناهجه وأفكاره وثقافته غربية، حتى الملابس والاطعمة أصبحت غربية، فكيف تكون مستقلا حرا، طالما أن ثقافتك بهذا الشكل، وتعتقد بأننا متخلفون وهم متقدمون. مع إنك تمتلك ذلك الكنز الكبير، وذلك التراث العظيم والزخم الايجابي في حياتك، والذي يمثل حضارة أهل البيت عليهم السلام وبالخصوص النهضة الحسينية، فهذا يعطيك زخما كبيرا في الاستقلال المعرفي والثقافي والفكري والسلوكي، وهي مسؤولية جامعاتنا وحوزاتنا الدينية ومثقفينا، أن يأخذوا بالنهضة الحسينية كمنهج وطريق وحركة من أجل بناء الحرية الاستقلال والتقدم والنهضة في مجتمعاتنا.

إن الإمام الحسين عليه السلام أراد أن يحرر عقولنا من تلك الأفكار السيئة الموجودة في أذهاننا، والتي تجعل منا عبيدا للآخرين، فإذا انفتحت عقولنا وتغيرت أفكارنا، وأصبحت حرة، تنفتح قلوبنا، وتكون قابلة للهداية، فالهداية تأتي أولا من التغيير الفكري. 

لذا نلاحظ أن أغلب الناس الضالين هم ضالون بسبب أفكارهم، فإذا تغيرت تتحرر عقولهم من الأشياء المادية (ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

فإذا تحررت الأفكار تحررت العقول، وسوف يكون قلب الانسان منفتحا على الهداية، لذلك فإن الإمام الحسين عليه السلام هو (مصباح هداية وسفينة نجاة). 

* حوار بث على قناة الامام الحسين، من تقديم الإعلامي مصطفى الزيدي

اضف تعليق