نحن نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة نسعى من خلالها لبناء الإنسان العراقي، خصوصا فئة الأطفال والمراهقين والشباب صعودا، ولابد أن يتربوا على القيم الحسينية العظيمة، ومنها التكافل، فزيارة الأربعين تقدم دروسا عظيمة وبلا مقابل للأطفال والفئات الأقرب منهم، وتساعدهم على بناء شخصية متكافلة مستعدة للتعاون في الخير...
لو أننا تجولنا في مدن وبلدان العالم كلها، لن نعثر على ما شاهدناه من صور تكافلية بالغة السخاء، أبدها أناس يلوح عليهم التعب والكدح، لكنهم ينضحون محبة وإيمانا وتأييدا ونصرة للإمام الحسين عليه السلام.
صور لا يمكن أن تتخيّل حدوثها لولا أنك تراها في عينك، وترصدها بنفسك، فعلى مدار اليوم، أربع وعشرون ساعة، يواصل خدّام الحسين عملهم بنشاط في خدمة الزائرين، وكأنهم بدأوا الآن، تُرى من أين استجمعوا هذه الطاقة العجيبة، وكيف لأجسادهم أن تواصل الحركة ساعات الليل بالنهار، من دون أن يقترب منها الفتور أو البحث عن الراحة؟
إنهم يتسابقون مع بعضهم على خدمة الزوار الكرام، وكأنهم في حلبة تنافس شديد لكسب الفوز بمن يقدم هذه الخدمة ويتفوق فيها على أقرانه سواء في المواكب الحسينية أو في الحسينيات التي امتدت وانتصبت على جميع الشوارع، بالإضافة إلى البيوت التي شرعت أبوابها ليل نهار للزائرين القادمين من أرجاء الأرض.
حشود بالملايين تُقبل بلا توقف، قاصدة ضريح سيد الشهداء، وهي تعرف أن هناك أناسا سوف يقدمون لهم كل ما يحتاجونه وكأنهم في بيوتهم ومدنهم وبلدانهم، فالخادمون هم أبناء الحسين وأتباعه وناصروه، وهم يتمنون أن يواصلوا هذه الخدمة سنوات وسنوات وليس أياما وشهورا، فكل أمانيهم تنحصر في رضا زوار الحسين، حتى ينالوا رضا الإمام الحسين عليهم ويفوزون بشفاعته عند رب عظيم كريم غفور.
هذه الخدمة الحسينية لا يتخلف عنها أحد من العراقيين، بل ينتظرونها يوما بعد آخر في كل سنة، وعندما تحين في شهريّ محرم وصفر، تبدأ معالم الحماس والبهجة في قلوبهم ونفوسهم، وقد تهيّأوا لجمع المواد الغذائية ولوازم الطبخ، والمأكل والمشرب والمنام، وجمعوا السرادق، ونصبوها وهم في حالة من الفرح والتفاعل العظيم.
الكبار والصغار يخدمون زوار الحسين
ليس الكبار هم وحدهم من يقوم بصور التكافل النموذجية، بل هنالك الأطفال والمراهقون والشباب الحسيني الكريم، هؤلاء جميعا يتعلمون ممن سبقهم في الخدمة في المواكب والحسينيات، ويحرص الآباء على تعليم أطفالهم منذ صغرهم على هذه الخدمة، ويثبتونها في عقولهم وقلوبهم ونفوسهم وأذهانهم وسلوكياتهم، يتم ذلك وهم أطفال صغار (فالتعلّم في الصغر كالنقش على الحجر) لا يزول مهما تقادمت عليه الأيام والسنوات، ولهذا تعلم خدّام الحسين هذه الخدمة وزروعها في نفسهم إلى أبد الآبدين.
والأجمل من هذا كله عندما تسأل خدام الحسين لماذا تفعلون ذلك وتقدمون هذه الخدمات على حساب راحتكم، فأنتم تتركون بيوتكم وعوائلكم وحتى أرزاقكم، لكي تخدموا زوار الحسين، فلماذا تفعلون ذلك بلا مقابل؟
عندما يسمعون كلمة بلا مقابل، يسخرون من قائلها، ويردونه قائلين له، نحن خدام الحسين، أجرنا حصلنا عليه هنا في هذه الدنيا، على شكل توفيقات كبيرة وكثيرة، ولا يزال الثواب الأعظم يوم نلتقي إمامنا وسيدنا اللحسين عليه السلام، ويشفع لنا عند الواحد الأحد يوم يعزّ الشفيع (ويفر منك حتى أبناؤك، ولا تنفعك أموالك)، فهل عرفتم الآن بماذا نفوز وعلى ماذا نحصل.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فنحن نفوز بأبناء بررة نربيهم على ثقافة الحسين وخدمة الحسين وثقافة عاشوراء وقيم الحق ورفض الظلم، والتعاون والتكافل المتبادل، فيكبر أطفالنا ليصبحوا رجالا أشداء، مؤمنين، تكبر في قلوبهم القيم السامية، ويخدم بعضه بعضا، ويتكافلون فيما بينهم، ويتعاونون على مصاعب الدنيا، ويرّون آباءهم وأمهاتهم ومربيهم ومعلميهم، فنحصل على قوم صالحين كرماء خلوقين متسامحين يشدون أزر بعضهم بعضا.
فما يُعنى به مبدأ التكافل، أن يتعاون الناس على المصاعب المختلفة، وأهمها ملء النواقص وتقليص مساحة الفقر، وتذليل آلام الحاجة، والأهم صنع الشخصية التي تنزع إلى سد نقص الآخر وليس التجاوز على حقه، هنا يكمن سر سعادة الناس بزيارة الأربعين، فالناس تتحول إلى ما يشبه (الملائكة)، فلا أحقاد ولا ضغائن، ولا خوف، ولا اعتداء، ولا جوع، ولا سرقة أو بالأحرى لا تفكير بالسرقة، وانتعاش الأمل، وانتشار نوع من التعايش ليس له مثيل في د=ول العالم أجمع، حتى تلك المجتمعات المتقدمة التي تتبجح بإنسانيتها واحترامها لحقوق الإنسان.
التكافل يتجسد فيما يقوم به أهالي كربلاء
ولكن نحن نخوض بالمعنى العملي للتكافل، إنه يتجسد في ما يقوم به أهالي كربلاء المقدسة في زيارة الأربعين، وما يؤديه أهالي المواكب الحسينية التي تمتد على جوانب ومحارم الطرق الرئيسة والفرعية لتشرع بتقديم خدماتها مجانا إلى مئات الآلاف بل ملايين من زوار سيد الشهداء عليه السلام، بالطبع دونما كلل أو ملل، وبلا أدنى منّة.
فالجميع يشعر بأنه يخدم نفسه، أما ظاهرة فتح البيوت أمام الزوار فهي تكاد تكون ظاهرة عراقية مليونية بامتياز، والأجمل أن الناس تتسابق للحصول على زائرين يملؤون بيوتهم وينظرون إليهم كمصدر للخير والبركة لأنهم زوار الحسين عليه السلام فيتسابقون على المزيد منهم، أمام الأطفال والمراهقين والشباب، لهذا تجد الشباب العراقي اليوم غاية في الكرم وعنوانا للتكافل الذي يعدّ مفتاحا لحل أصعب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في جميع البلدان.
قد يقول قائل أن هذه الخدمات الحسينية تجري بلا تنظيم، كما أنها تنتهي مع نهاية الزيارة الأربعينية، في الإجابة عن الشق الأول، إنها ليست عشوائية، بل هناك تعليمات تصدر للمواكب الحسينية وسواها يتم العمل بها، ومع مرور السنوات يعالج الجميع الهفوات التي قد يقعون فيها سهوا، فالتصحيح قائم على قدم وساق، كما أن المراجع العظام والمنابر والخطباء يقدمون التوجيهات اللازمة باستمرار، وقد وجدت صداها لدى الجميع من خلال ما نلمسه من تقدم رائع في مجال التنظيم والمثابرة وحملات النظافة الجماعية المستمرة.
لهذا نحن نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة نسعى من خلالها لبناء الإنسان العراقي، خصوصا فئة الأطفال والمراهقين والشباب صعودا، ولابد أن يتربوا على القيم الحسينية العظيمة، ومنها التكافل، فزيارة الأربعين تقدم دروسا عظيمة وبلا مقابل للأطفال والفئات الأقرب منهم، وتساعدهم على بناء شخصية متكافلة مستعدة للتعاون في الخير، وحين يكون الطفل تكافليا ويكبر على هذه الثقافة، فإن ما يضمره له المستقبل هو مجتمع تكافلي متعاون وناجح في جميع المقاييس، إنها إحدى ثمار زيارة الأربعين بعون ورعاية ومساندة من الله القوي العزيز المقتدر.
اضف تعليق