ملفات - عاشوراء

كيف تؤدي زيارة الأربعين الى بناء الصحة النفسية؟

زيارة الأربعين ونصرة الامام الحسين (ع) (7)

زيارة الأربعين تستنقذ الإنسان من حيرة الضلالة، ومن الشك والبؤس النفسي، وتنتشله من القلق والاكتئاب وعدم اليقين، والخوف من المستقبل. ولذلك فإن الزيارة من أهم الموارد والقنوات التي تعالج الهشاشة النفسية ببناء الصحة النفسية، فالإنسان اليوم يعيش حالة نفسية من الاضطراب الكبير لأنه حائر ضائع مضطرب...

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ)

ذكرنا في المقال السابق مظاهر من الأزمات النفسية التي يعيشها العالم اليوم والأسباب التي تؤدي الى اختلال الصحة النفسية مثل حالات القلق والاكتئاب والانعزال والفردية والانفصال عن الله سبحانه وتعالى، ودور العلاقات الاجتماعية والتجمعات البشرية الكبيرة مثل زيارة الأربعين، في بناء الصحة النفسية وإنقاذ الإنسان من الاختلال والضياع. وفي هذا المقال نذكر النتائج التي تتمخض عن الاختلالات النفسية والاجتماعية.

نقرأ في زيارة الأربعين: (فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَة)(1)، الاستنقاذ يعني الانتشال، والأخذ باليد، الإمام الحسين (عليه السلام) بذل كل شيء مهجته –دم القلب والروح- قلبه وأولاده وعائلته ليستنقذ العباد من الجهالة، ويأخذ بيدهم نحو طريق المعرفة والرشاد.

ولكن لماذا ذكر (وحيرة الضلالة)، الجهالة مرتبطة بالمعرفة، وحيرة الضلالة مرتبطة بالنفس، لأن حيرة الإنسان تعني الشك والقلق والاضطراب، حيث يكون الإنسان حائرا من خلال الحالة النفسية والضعف النفسي الذي يعاني منه لأنه غارق في الجهل المدقع، ولأنه يقع في زوابع التضليل فيغرق في الحيرة والتيه والضياع، فهو ضحية في عالم الطواغيت والظلمة وأبواقهم الدعائية، فهو جاهل يزداد حيرة، وكلما يزداد حيرة يزداد ضلالة.

فزيارة الأربعين تستنقذ الإنسان من حيرة الضلالة، ومن الشك والبؤس النفسي، وتنتشله من القلق والاكتئاب وعدم اليقين، والخوف من المستقبل.

ولذلك فإن زيارة الأربعين من أهم الموارد والقنوات التي تعالج الهشاشة النفسية ببناء الصحة النفسية، فالإنسان اليوم كما ذكرنا يعيش حالة نفسية من الاضطراب الكبير لأنه حائر ضائع مضطرب.

ما هي نتائج الاضطرابات النفسية؟

هناك عدة نتائج متمخضة عن الاختلالات النفسية وهي: 

أولا: الشك والارتياب وعدم اليقين

من نتائج الاضطرابات النفسية، الشك والارتياب وعدم اليقين، وبالتالي الوقوع في الحيرة والضلالة.

وفي الآية القرآنية: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة 45. فهؤلاء الذين لا يؤمنون، يعيشون حالة من الاضطراب العقائدي يؤدي بهم الى الضلالة.

يعيشون هذا المرض النفسي النفاق والازدواجية، لأن قلوبهم مرتابة، أي في داخلها الشك، والحيرة والاضطراب، فنلاحظ أنهم يترددون، فكلما يحتار الإنسان يزداد حيرة، وكلما يرتاب الإنسان يزداد ريبة، فهذه هي الآلية التي تحرك قضية الريب والشك.

الشك لا يحلّ مشكلة، وبعض الناس يقولون نحن نشك حتى نتعلم، وهذا خاطئ، لأن الشك يزيد الإنسان شكا، ويجعله يتردد أكثر ويدخله في المتاهات، فالريب والاضطراب يؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تنتج عن التردد المستمر إلى أن يصبح الاضطراب كبيرا وهذا هو صلب المرض النفسي، الذي هو من أسباب الانحرافات. 

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من يتردد يزدد شكا)(2)، فالفرد (الوسواسي)، وهو الذي يعاني من الوسواس القهري(3)، يجعل الإنسان مترددا دائما، العجيب حين يتردد الإنسان فإنه يستمر بالتردد، ويتردد أكثر فأكثر، إلى أن يصل إلى مرحلة التضخم الكبير من الاضطراب الذي يعاني منه.

الشك يطفئ نور القلب

وعنه (عليه السلام): (ثمرة الشك الحيرة)(4)، فالحيرة هي الاضطراب الناشئ من دوامة الشك المستمر، فالشك كما يقول (عليه السلام): (الشك يطفئ نور القلب)(5)، وهذه العبارة العميقة، تعبر عن ماهية القلب وكيف يكون صحيحا، سليما، متعافيا نفسيا، وفكريا، فالقلب هو الوعاء الذي يحتوي أفكار الإنسان وسلوكياته وتوجهاته ودوافعه.

فإذا كان الإنسان شكّاكا سوف يزحف الى قلبه السواد والظلام، وكلما يتردد ويشك أكثر يزداد الظلام في قلبه ويغلفه ويحجبه، لذلك فإن الشك يطفئ نور القلب، وعنه (عليه السلام): (بدوام الشك يحدث الشرك)(6)، فهذا التردد والحيرة والاضطراب يؤدي إلى الإنسان بدوامه إلى الكفر والشرك.

بينما اليقين على العكس من ذلك فهو يضيء القلب، إلى حد ماذا، أي بحسب درجات اليقين لديه. وعن الإمام علي (عليه السلام): (أيها الناس! سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية، فإن أجل النعمة العافية، وخير ما دام في القلب اليقين، والمغبون من غبن دينه، والمغبوط من غبط يقينه)(7).

فالصحة والعافية العقائدية والنفسية في اليقين، والشك والتردد ينهشان الانسان في داخله فيستوطن المرض النفسي فيه، وعن الامام علي (عليه السلام): (من كثر شكه فسد دينه)(8). خصوصا عندما يكون خفيا وليس ظاهريا يبقى بلا أجوبة.

وقد حثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بالبحث عن الأجوبة لإدراك العافية والصحة النفسية، وفتح القلب لضياء المعرفة بقوله: (خير ما القي في القلب اليقين)(9).

وعن الامام علي (عليه السلام): (فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيْ بُنَيَّ وَلُزُومِ أَمْرِهِ وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا)(10)، فأهم شيء في حياة الإنسان هي معافاته النفسية والعقائدية وهذا ينتج عن اليقين، وعلى العكس من ذلك فإن أسوأ أنواع الأمراض هو الشك والريبة والتردد الذي يؤدي إلى الكفر، فالنفس المستقرة الهادئة لا تقع في الضلالة والحيرة والشك.

ثانيا: العيش في عالم افتراضي موهوم

الاضطرابات النفسية المحملة بالجهالة والحيرة تجعل الإنسان يعيش في عالم افتراضي موهوم، وليس واقعي، بالنتيجة فإن العالم الافتراضي الذي نراه اليوم هو سجن والإنسان رهين فيه باوهامه، وهذا يؤدي إلى غياب الخبرة الاجتماعية عند الإنسان.

لذلك نلاحظ أن الإنسان المضطرب نفسيا لا يمتلك قدرة أو معرفة في التعامل مع الناس، ولا توجد لديه قدرة على التواصل في العلاقات الاجتماعية، لهذا يقع في مشاكل مع الناس دائما، لأنه يعيش عالما من الأوهام الذي يصنعه العالم الافتراضي، أما الحقيقة فيصنعها العالم الواقعي، لذلك فإنك الإنسان يحتاج إلى العلم والمعرفة والبصيرة والفهم والمهارات العالية، هذا يعني ضرورة ان يفهم قواعد الحياة، وعندما لا يفهممها الإنسان فإنه يكون في ضلالة، ويعيش في حالة نفسية مضطربة، فالعيش في العالم الافتراضي يجعل الإنسان بعيدا عن الفهم الواقعي.

(إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا)(11).

ثالثا: غياب العاطفة والتعاطف والتآلف وصعود التوحش

فغياب التعاطف عند الإنسان يؤدي إلى صعود التوحّش، في مقابل الإنسانية، فمعنى الإنسان أنه يأنس بالناس ويتعاطف معهم، فعندما يخرج الإنسان من تعاطفه واستئناسه مع الناس يصبح متوحشا.

فمن النتائج التي نلاحظها عند الإنسان المضطرب نفسيا، هي غياب العاطفة والتعاطف والنتيجة يكون متوحشا، لهذا فإن زيارة الأربعين حين تجمع الناس بهذا الأسلوب والطريقة، والتشكيلة من القيم والمبادئ والأخلاقيات، فإنها تغرس بذور التآلف، وترسخ المزيد من التعاطف والمودة بين الناس وبشكل متصاعد.

فالتكاتف والتكافل والعطاء والتضحية، هي الأمور التي تؤدي إلى الإنسان الصحي، نفسيا وجسديا، وبناء المجتمع الصحي السليم المعافى.

وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ وَلْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ وَلَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَلَا عَنِ اللَّهِ يَعْقِلُونَ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَيُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً)(12).

جملة (كقيض بيض في أداح) يظنونه بيضا للطيور، ولكن عندما يكسر البيض تخرج منه الأفاعي، يكون وزرا وشرّا وذنبا ومعصية، (ويخرج حضانها شرا)، فيخرج من هذا البيض أفاع تقتل الإنسان. 

وهنا يتبين الفرق بين الرحمة والقسوة، فالقسوة تؤدي إلى تكوّن حاضنة للشر، أي تجعل قلب الإنسان قاسيا عنيفا حادا، كما نلاحظ ذلك في بعض الآباء حيث يربون أولادهم بالعنف، الضرب والقسوة والشتم، والأب يتصور أنه بهذه الطريق يؤدّب ابنه، ولكن الحاضنة التي يربي بها ابنه بالعنف هي حاضنة شرّ، فيكون الابن بالنتيجة متخلفا ومريضا نفسيا، يحمل في داخله الحقد والكراهية والعنف ضد أسرته ومجتمعه.

بناء البيئات السليمة

هؤلاء الذين نراهم عنيفين مجرمين قساة، صاروا هكذا بسبب حاضنتهم الشريرة، المقصود هنا أننا نحتاج إلى بناء بيئات سليمة، بيئة الخير والرحمة والتعاطف، فليتأس صغيركم بكبيركم، لماذا لأن الصغير يتأثر بالكبير، فإذا رآه رحيما فيكون رحيما.

(وليرأف كبيركم بصغيركم) حتى يحدث التوازن، هذه هي المعادلة، بالنسبة لحاضنة الرحمة والتراحم، وهذه هي الغاية والمقصود من زيارة الأربعين المقدسة، حيث تكون الحاضنة الواسعة للرحمة والرأفة والتعاطف والمحبة والسلام.

اما المجتمعات التي لا يوجد فيها التعاطف، وهي مجتمعات القسوة التي دائما تختزن العنف والشرّ وتؤدي بالنتيجة إلى مزيد من الدمار، والاضطرابات النفسية التي هي نتيجة للحاضنات الشريرة، فالرأفة والرحمة في الأسرة وفي المدرسة وفي المجتمع، وفي العلاقات الاجتماعية المختلفة، تؤدي الى بناء حاضنة سليمة وتؤدي إلى انتاج نفسي واجتماعي سليم، وغرس القيم الجيدة في المجتمع. 

رابعا: فقدان الأمل وسيطرة اليأس والاكتئاب

الإنسان اليائس والمضطرب هو مريض نفسيا، فكل إنسان أحيانا يتعرض لليأس أو للاكتئاب، لا يوجد إنسان لا يمر في هذه الحالة وذلك بحسب الظروف التي يعيشها، ولكن عندما يسيطر ويهيمن عليه اليأس هيمنة تامة، فسوف يصبح مرضا نفسيا، ويؤدي به إلى الاضطراب، لذلك نجد هذه الحالات في الانسان المتوحش المنعزل والكسول. بالنتيجة يكون إنسانا عدميا، لا يرى فائدة في الحركة والعمل والتوكل على الله سبحانه وتعالى.

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (إياك والجزع، فإنه يقطع الأمل، ويضعف العمل، ويورث الهم)(13)، وهذه الكلمات تعبر عن معنى المرض النفسي الذي ينتشر في المجتمعات المكبوتة نتيجة للاستبداد، لأن مجتمعات الاستبداد والظلم دائما تجد فيها اليأس، والاكتئاب، لأنه لا توجد رحمة ولا فرص عمل ولا يوجد إصلاح، ويكون المجتمع راكدا جامدا، فيسيطر الجزع والهمّ على الإنسان، فيصبح مكتئبا، وعن الإمام الحسين (عليه السلام): (لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما)، وكلمة برما تعني: الضجر، الملل، والإنسان المتبرم الذي يتذمر دائما ويعيش اليأس والاكتئاب، ويعيش الجزع، لذا يقول الإمام إن الحياة مع الظالمين مليئة بالملل والضجر واليأس.

لكن الحياة الحقيقية لا تُعاش هكذا، الحياة لا تُعاش إلا مع الحرية، لذا نلاحظ المجتمعات اليوم التي تعاني من اليأس والاكتئاب، نجدها مريضة نفسيا.

كيف تؤثر الزيارة الأربعينية على الصحة النفسية؟

من خلال ملاحظتنا للمظاهر ولأسباب والنتائج نصل إلى بعض الاستنتاجات حول تأثير هذه الزيارة على الصحة النفسية للإنسان، وكما يلي:

النقطة الأولى: تحقق هذه الزيارة الارتباط الوثيق بالله تعالى وأهل البيت عليهم السلام

تحقق زيارة الاربعين امتداد ذلك الاتصال للإنسان مع الوجود، مع الحياة، مع الغاية، مع الحرية، فالانفصال يؤدي إلى الاضطراب، وضياع الانتماء، لكن الاتصال يؤدي إلى إحساس الإنسان بالانتماء والغاية والوجود، وبالنتيجة تحقيق الاستقرار والسكينة.

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) الفتح 4.

السكينة تعني أن يكون الإنسان مطمئنا وليس قلِقا، أما في المقابل فيحدث القلق والاضطراب، في حين الاطمئنان يعني الهدوء والدِعة، والراحة النفسية (ليزدادوا إيمانا)، مقابل أولئك الذين ازدادوا ريبا، فالإنسان الذي يكون مؤمنا دائما يراكم من إيمانه فوق ايمانه، فيخشع قلبه ويزداد إيمانه، وهكذا تتضاعف سكينة الإنسان في أعماق نفسه.

فالعبادات والزيارات والشعائر تؤدي إلى زيادة ارتباط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وبأهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا يستقر الإنسان ويزداد هدوء وسكينة ويعيش حياة رغيدة وسعيدة.

النقطة الثانية: بناء اليقين وإنقاذ الإنسان من الشك والتردد والريب

وبالتالي إنقاذ الإنسان من التآكل الداخلي، فحين يأتي الإنسان إلى زيارة الأربعين هدفه من ذلك ليس لكي يأكل الطعام، بل هدفه إحياء هذه الشعيرة وبناء اليقين في ذاته، حتى يستطيع أن يعيش قويا في حياته، وينتزع الشك والتردد من نفسه، وهكذا نرى في هذه الشعيرة الكبيرة العظيمة هذا التآلف والتراحم بين الناس، فيشعر الإنسان بالوجود، ويزداد يقينا، وبالنتيجة يستطيع أن يعالج نفسه ويخلصها من الأمراض والاوهام النفسية والعقائدية التي قد تنتابه.

 (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد 28. 

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)، الفجر 31.

فالزيارة تزيد الاطمئنان عند الإنسان، وهذا كله ترابط مع الله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يخرج من دنياه، ويعطي من أمواله، ويبذل من عطائه ومن جهده، كما نلاحظ بعض الناس، ربما هو يعيش في بيت مرفّه جدا، لكنه يسير في الشوارع حافيا، هذا الإنسان يعيش حالة من الزهد من أجل بناء اليقين في نفسه مع الله سبحانه وتعالى.

لذلك يجب على الأب الذي عنده أولاد وكذلك هو نفسه، أن يشارك في زيارة الأربعين، حتى يحقق البناء المعنوي واطمئنان قلبه، ويبني العقيدة القوية، ويبني الصحة النفسية القوية السليمة له ولأولاده.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين)(14)، وهذا معاكس للإنسان الذي يعيش الاضطراب وعدم اليقين، والتردد والحيرة، هذا الإنسان يشتعل قلبه وتحترق نفسه بسبب الشك، لذا عليه بطلب اليقين، حتى يطفئ تلك النار فيبرد قلبه.

فأعظم سعادة للإنسان أن يحصل على السكينة والاطمئنان، يحصّل بأن يبرّد قلبه باليقين، وأكبر تعاسة للإنسان أن يعيش مشتعلا بالشك والتردد نتيجة لعدم اليقين.

لذا فإننا عندما نقرأ زيارة الأربعين نقرأها بوعي، فكل كلمة في هذه الزيارة تعليم لنا، وحجة علينا، فحين تقرأ الكلمة عليك أن تقرأها بوعي ويقظة، وأن تفهمها جيدا (وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَة، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ).

في هذا المقطع الثاني شرح للمقطع الأول، عن أولئك الذين وقعوا في حيرة الضلالة، وهم المرضى والمضطربون النفسيون، هؤلاء الأراذل الذين باعوا أنفسهم بثمن بخس، بالأدنى، فقد سقط في التكبر والعبودية لهواه، وأصبح عبدا لأهوائه، وهكذا فهو يخسر الدنيا والآخرة في نفس الوقت.

هذه هي نتيجة هؤلاء المرضى النفسيين الذين يعيشون الحياة بتعاسة، لذلك فإن الهدف من زيارة الأربعين، أو من نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، هي نهضة إصلاحية، وزيارة الأربعين لتجديد البيعة ونصرة متواصلة للإمام الحسين (عليه السلام) من خلال عملية بناء اليقين، وانتشال الإنسان من حيرة الضلالة، ومن هذا السلوك الذي يتردى الإنسان في هواه، فيوقعه في أدنى مراتب التسافل والانحطاط.

لذا فإن الهدف من زيارة الأربعين هو بناء اليقين، وإنقاذ الإنسان من العلل النفسية، والأمراض النفسية، والانحراف العقائدي، ولهذا السبب نقرأ في زيارة أخرى: (وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى من الردى)(15)، فالهدف هو الهداية والتخلص من كل هذه الأمراض، وإلى الهداية من الردى وهو يعني الموت الرديء أو الموت السيّئ.

فهدف الإمام الحسين (عليه السلام) هو انتشال الناس من الضلالة والجهالة والانحراف الى اليقين والسكينة والاطمئنان والاستقرار، فعن الإمام علي (عليه السلام): (نعم طارد الهموم اليقين)(16)، أي ان أهم خطوة لطرد القلق من نفس الإنسان هو اليقين، لهذا فإن بناء اليقين عند الإنسان هدف مهم جدا، لأنه هو الذي يطرد الأمراض النفسية عن الإنسان.

ثالثا: تحقيق الارتباط الاجتماعي

وذلك من خلال مجموعة القيم القائمة على العطاء والانفاق والإحسان والتعاطف وحسن الظن بالآخرين، فالعلاقات الاجتماعية القائمة على المبادئ والقيم الفطرية تؤدي الى شفاء الانسان النفسي.

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران/103، كما ان ممارسة سلوكيات التضحية والعطاء والايثار والاحسان، تؤدي الى انتزاع الانانية من ذاته، وبالنتيجة تؤدي تسليم نفسه لله تعالى، وهذا من أعظم السلامة والصحة النفسية، حيث يستقيم الإخلاص في نفسه، عندما يختزن قلبه الانوار الإلهية، وعندما تغيب عن نفسه اغلال المادية الدنيوية التي تتسبب بأساه وتعاسته، فمن يحسن فإنما يحسن لنفسه.

(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 112.

وأخيرا فإن زيارة الأربعين بما تحويه من شعائر وعطاء تؤدي الى التقوى، والتقوى تؤدي الى بناء الصحة النفسية، لأنها تقيه من الوقوع في الشبهات والذنوب والمعاصي التي تتسبب بالاضطرابات النفسية الملوثة للقلب.

(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج 32.

* حوارات بثت على قناة المرجعية في مناسبة زيارة الأربعين 1445

......................................

(1) المصباح - الكفعمي - الصفحة ٤٨٩، رواها صفوان بن مهران عن الصادق عليه السلام قال تزور عند ارتفاع النهار بهذه الزيارة...

(2) غـُرَرُ الحِكَم ودُرَرُ الكَلم، الآمُدي، رقم: 1071.

(3) ينطوي اضطراب الوسواس القهري على نمط من الأفكار والمخاوف غير المرغوب فيها تُسمى الوساوس. وتدفع تلك الوساوس (الوسواسي) إلى سلوكيات تُكرر فيها فعل الأشياء، وتُسمى كذلك السلوكيات القهرية. وفي النهاية، يشعر بأنه مضطر لممارسة السلوكيات القهرية في محاولة لتخفيف التوتر. وحتى عندما يحاول تجاهل هذه الأفكار أو الرغبات الملحة المزعجة أو التخلص منها، تعاوده مرارًا وتكرارًا. ويدفعه ذلك إلى التصرف استنادًا إلى الطقوس القهرية. وهذه هي الحلقة المفرغة لاضطراب الوسواس القهري.

(4) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٢٠٧.

(5) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٦.

(6) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ١٨٨.

(7) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٧ - الصفحة ١٧٦.

(8) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٣١.

(9) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - الصفحة ١١٤.

(10) نهج البلاغة – كتب الإمام علي (ع)، رقم 31، ومن وصية له للحسن بن علي (عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

(11) نهج البلاغة – حكم الإمام علي (ع)، رقم 131.

(12) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، رقم 166.

(13) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٩ - الصفحة ١٤٤.

(14) غـُرَرُ الحِكَم ودُرَرُ الكَلم، الآمُدي، رقم: 716.

(15) كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - الصفحة ٤٠١.

(16) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - الصفحة ٢١١.

اضف تعليق