ملفات - عاشوراء

المُتخاذِلونَ والتهرُّبِ من مسؤُوليَّةِ الإِصلاحِ

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (١٧)

إِنَّهُ نسفَ شرعيَّةَ حكومةَ يزيدٍ من القواعدِ، فهيَ غَير شرعيَّة بالنَّص الدِّيني وهيَ غَير شرعيَّة بالنصِّ السِّياسي، الواقعي، فالحكومةُ التي لا تُحقِّق العدْل في المُجتمعِ وتتصرَّف بخيراتِ البلادِ بطريقةِ الإِستئثار وتُمارس الفَساد المالي والإِداري والأَخلاقي لهيَ حكومةٌ يجبُ أَن تزولَ لا محالةَ. والمُجتمع يتحمَّل مسؤُوليَّة تغييرِ...

وفي طريقهِ إِلى الكوفةِ، وفي مَوضعِ [زَبالة] تحديداً وصلَ الحُسين السِّبط (ع) خبرُ مَقتل سفيرهِ إِلى الكوفة مُسلم بن عقيلٍ (ع) فخطبَ في النَّاسِ الذينَ التحقُوا بهِ من مكَّةَ المُكرَّمة عندما غادرَها إِلى الكوفةِ قائِلاً {أَمَّا بعدُ؛ فإِنَّهُ قد أَتانا خبرٌ فظيعٌ قتلَ مُسلم بن عقيلٍ وهانِئ بن عُروَة وعبد الله بن يقطُر [أَخو الإِمام (ع) بالرَّضاعةِ وثقتهِ الذي حملَ رِسالتهُ الجوابيَّة إِلى مُسلمٍ (ع) في الكوفةِ] وقد خذلَنا شيعتُنا، فمَن أَحبَّ منكُم الإِنصرافَ فلينصرِف غيرَ حرجٍ ليسَ عليهِ ذِمامٌ}.

 ولقد تمثَّلَ الخُذلانُ هُنا بالإِنقلابِ على العهدِ وعدمِ الوفاءِ بالبَيعةِ التي أَعطاها أَهلُ الكوفةِ للشَّهيدِ مُسلمٍ (ع) سفيرُ الإِمامِ (ع) والمُتمثِّلةِ بالقتالِ معهُ لإِسقاطِ الحُكمِ الأَمويِّ في الكُوفةِ أَوَّلاً وإِقامةِ حكُومةِ الحقِّ والعدلِ.

 وإِنَّ النَّاسَ الذينَ تركُوا قافِلةَ الإِمام (ع) بعدَ إِعلانهِ خبر استشهادِ مُسلم (ع) كانُوا منَ الصِّنفِ الذينَ التحقُوا بهِ ظنّاً منهُم أَنَّهُ (ع) يأتي بلداً [الكُوفة] قد استقامَت طاعةَ أَهلهِ فأَرادُوا أَن يُصيبُوا من الدُّنيا شيئاً ومن حكُومتهِ مصالِحَ، ولذلكَ فهوَ (ع) صارحهُم بالخبرِ ليكونُوا على درايةٍ بالأَمرِ فهوَ يكرهُ أَن يتبعهُ أَحدٌ وهوَ أَعمى البصيرة لا يعرِف الحقيقةَ أَو مُضلَّل لا يفهَم شَيئاً.

 ولقد غمزَ الإِمامُ (ع) في قناتهِم، كما يُقال، عندما ذكَّرهُم بأَنَّهم التحقُوا بهِ من مكَّةَ على أَساسِ أَنَّ الكوفةَ في قبضتهِ وهي الآن ليسَت كذلكَ، فلقد انقلبَ الأَمرُ وتغيَّرَ الحالُ. 

 وفي أَوَّلِ خطابٍ لهُ (ع) أَلقاهُ وهوَ في طريقهِ إِلى الكوفةِ عندما التقَى بالحرِّ بن يزيدٍ الرِّياحي وهوَ على أَلفِ فارسٍ، قالَ الحُسينُ السِّبطِ (ع) {أيّها النّاس، إِنَّي لم آتِكُم حتَّى أَتتني كُتبُكُم وقدِمَتْ عليَّ رُسُلُكُم أَنِ اقدِم علينا؛ فإِنَّهُ ليسَ لنا إِمام، لعلَّ الله أَن يجمعَنا بكَ على الهُدى والحقِّ. 

 فإِن كنتُم على ذلكَ فقد جئتكُم فأَعطُوني ما أَطمئِنُّ إِليهِ من عهودِكُم ومواثيقِكُم، وإِن لم تفعلُوا وكُنتم لمقدَمي كارهينَ اِنْصَرَفْتُ عنكُم إِلى المكانِ الذي جِئتُ مِنهُ إِليكُم}.

 والخطابُ تأكيدٌ آخر على أَنَّهُ (ع) لم يختَر الكُوفة من تلقاءِ نفسهِ أَبداً وإِنَّما استجابةً لرسائلِ أَهلِها الذينَ بايعُوهُ من خلالِها أَوَّلاً ثمَّ من خلالِ البيعةِ التي أَعطُوها لسفيرهِ الأَمينِ الثِّقة مُسلم بنَ عقيلٍ (ع) فيما بعدُ.

 والخطابُ كذلكَ تَوكيدٌ على المُحتوى السِّياسي لطبيعةِ الرَّسائلِ ولطبيعةِ العهُودِ والمَواثيقِ.

 وأَضافَ (ع) {أَمَّا بعدُ، فإِنَّكم إِنْ تتَّقُوا الله وتعرفُوا الحقَّ لأَهلهِ تكونُوا أَرضى لله عنكُم، ونحنُ أَهلُ بيتِ محمَّدٍ (ص) أَولى بولايةِ هذا الأَمرِ عليكُم من هؤُلاءِ المُدَّعينَ ما ليسَ لهُم، والسَّائِرينَ فيكُم بالجَوْرِ والعُدوانِ، وإِنْ أَبيتُم إِلاَّ الكراهيةَ لنا والجهلَ بحقِّنا، وكان رأيكُم الآن غيرَ ما أَتتني بهِ كتبكُم، وقدِمت بهِ عليَّ رُسُلُكُم إِنصرفتُ عنكُم}.

 مرَّةً أُخرى يُشيرُ الإِمام (ع) هُنا إِلى أَحقيَّتهِ في [الحكُومةِ] وعدمِ شرعيَّةِ سُلطةِ الأَمويِّينَ الذينَ فضحَ الإِمامُ (ع) جانِباً من جرائمهِم السياسيَّة وسُلطتهِم الغاشِمة الظَّالِمة.

 وهوَ هُنا يدعوهُم للثَّباتِ على بيعتهِم لهُ لإِكمالِ المُهمَّةِ التي بايعُوهُ عليها وجاءَ من أَجلِها سويَّةً والمُتمثِّلة بإِزاحةِ يزيدٍ عن السُّلطةِ والإِستعدادِ لإِقامةِ سُلطةِ الحقِّ والعدلِ.

 وأَضافَ في خطابهِ {أَمَّا بعدُ فقد علِمتُم أَنَّ رسولَ الله (ص) قد قالَ؛ مَن رأَى سُلطاناً جائِراً مُستحِلّاً لحرامِ الله ناكِثاً لعهدِ الله مُخالفاً لسنَّةِ رسولِ اللهِ (ص) يعملُ في عبادِ الله بالإِثمِ والعُدوانِ فلَم يُغيِّر ما عليهِ بفعلٍ ولا قَولٍ كانَ حقيقاً على الله أَن يُدخِلهُ مدخَلهُ.

 وقد علِمتُم أَنَّ هؤُلاءِ القَومِ قد لزمُوا طاعةَ الشَّيطانِ وتركُوا طاعةَ الرَّحمنِ وأَظهرُوا الفسادَ وعطَّلُوا الحدُودَ واستأثرُوا بالفَيئِ وأَحلُّوا حرامَ الله، وحرَّمُوا حَلالهُ، وإِنِّي أَحقُّ بهذا الأَمرِ لقَرابتي مِن رسولِ الله (ص)}.

 لقَد ساقَ الحُسين السِّبط (ع) هذا الحديثِ الشَّريفِ عن جدِّهِ رسُولَ الله (ص) وفي هذا المَوقفِ على وجهِ التَّحديدِ لأَسبابٍ عدَّةٍ؛

١/ إِنَّهُ نسفَ شرعيَّةَ حكومةَ يزيدٍ من القواعدِ، فهيَ غَير شرعيَّة بالنَّص الدِّيني وهيَ غَير شرعيَّة بالنصِّ السِّياسي، الواقعي، فالحكومةُ التي لا تُحقِّق العدْل في المُجتمعِ وتتصرَّف بخيراتِ البلادِ بطريقةِ الإِستئثار وتُمارس الفَساد المالي والإِداري والأَخلاقي لهيَ حكومةٌ يجبُ أَن تزولَ لا محالةَ.

 ٢/ وإِنَّ المُجتمع يتحمَّل مسؤُوليَّة تغييرِ مثلِ هذهِ الحكومةِ الظَّالمةِ شاءَ أَم أَبى وإِلَّا فإِنَّهُ [المُجتمع كُلَّ المُجتمع] سيدخُلُ بنفسِ المدخلِ الذي سيُدخِلُها الله تعالى فيهِ، والرُّؤية مِصداقٌ لقَولِ الله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} فواحِدٌ فقط عقرَ النَّاقةَ إِلَّا أَنَّ العذابَ شمِلَ كُلَّ المُجتمعِ الذي لم يُغيِّر ما عليهِ وبقيَ يتفرَّجُ!.

 ٣/ ولم يكتفِ الحُسين السِّبط (ع) بفضحِ السُّلطةِ الغاشمةِ لإِسقاطِها وإِنَّما قدَّمُ لهُم البديل الذي سيُقيمُ معهُم حكومةَ العدلِ والحقِّ.

 وأَنَّهُ (ع) سيكونُ أَوَّلُ المُتصدِّينَ لمسؤُوليَّةِ الإِصلاحِ والتَّغييرِ المطلُوبةِ، إِذ ليسَ من المعقُولِ أَنَّهُ (ع) يُحذِّرهُم من مغبَّةِ العاقبةِ السيِّئة التي تنتظرهُم إِذا لم يعملُوا على تغييرِ السُّلطة الغاشِمة ثمَّ يقفُ هوَ مُتفرِّجاً لا يفعَل شيئاً على هذا المُستوى! ولذلكَ قالَ لهُم {وأَنا أَحقُّ مَن غيَّر} لِماذا؟! لأَنَّهُ مِن أَكثرِ النَّاسِ مَعرفةً بالحقُوقِ والحدُودِ وإِدارةِ البلادِ بالحقِّ والعدلِ.

 وأَكثر؛ عندما قالَ لهُم {فأَنا الحُسين بن عليٍّ وابنُ فاطِمة بنتِ رسول الله (ص) نفسي مَعَ أَنفُسكُم وأَهلي مَعَ أَهليكُم، فلكُم فيَّ أُسوةٌ}.

 وبذلكَ يكُونُ (ع) قد أَسقطَ كُلَّ الأَعذارِ السَّخيفةِ التي قد يسُوقها المُتخاذِلونَ للتهرُّبِ من مسؤُوليَّةِ الإِصلاحِ.

 وفي خطابٍ بمضامِينَ سياسيَّةٍ راقيةٍ قال (ع) {فأَصبحتُم إِلباً على أَوليائكُم ويداً عليهِم لأَعدائكُم، بغيرِ عدلٍ أَفشوهُ فيكُم ولا أَمل أَصبحَ لكُم فيهِم، إِلَّا الحرامَ من الدُّنيا أَنالوكُم وخسِيسِ عَيشٍ طمعتُم فيهِ}.

 وإِنَّ مثلَ هذهِ الأُمَّة هيَ الأَسوء والأَحقر والأَتفه من بينِ كُلِّ الأُممِ، فعندما يهتِفُ المُجتمع بحياةِ طاغوتٍ ميؤُوسٍ من إِصلاحهِ لم يلمَس منهُ إِلَّا الظُّلم والقَهر وحياة العبوديَّة فقط لأَنَّهُ رضيَ منهُ الفُتاتَ من موائدِ الحرامِ! ثُمَّ يُحاربُ بهِ الصَّالحينَ الدَّاعينَ إِلى الخيرِ والعدلِ والحقِّ، فبالتَّأكيدِ إِنَّهُ الأَتفهُ مِن بينِ كُلِّ المُجتمعاتِ الأُخرى.

 وهوَ حالُ مجتمعِنا اليَوم للأَسفِ الشَّديدِ!. 

اضف تعليق