القضية المشتركة التي من أجلها تتحرك الجموع أيام عاشوراء والاربعين لإحياء القضية التي ضحى من أجلها الامام الحسين وأهل بيته، فالوقوف بقوة في هذه الحرب، ليس فقط يهدد قوى الإرهاب التكفيري بالهزيمة المعنوية التي يخشاها أكثر من الهزيمة العسكرية، وإنما يهدد الانظمة السياسية بالصميم،...

مآل مؤسف ومريع نعيشه، نحن شيعة أمير المؤمنين في بعض البلاد المأزومة سياسياً وعقدياً وأمنياً، فعندما نريد إحياء شعائرنا الحسينية، نواجه؛ ليس تهديدات السلطة الحاكمة، كما في العهود الماضية (الستينات والسبعينات)، وإنما تهديدات من جماعات تكفيرية مدعومة بشكل غير مباشر من هذه السلطات. 

"يأكلولكم أكل..."! كلمات اطلقها أحدهم في الشجار اللفظي الحاصل في الكويت مؤخراً بين أصحاب المواكب الحسينية وعدد من رجال الشرطة على خلفية قرار وزارة الداخلية بمنع بعض الفعاليات الحسينية في الكويت، وكان هذا المتكلم بزي مدني يحاول تعزيز إجراءات منع إقامة المضايف خارج الحسينيات التي تقدم الماء والشاي والأطعمة، او نصب مكبرات الصوت للمجالس الحسينية في الشارع، أو رفع الرايات الحسينية، وربما في ظنّه أن ينصحهم بأن لو تصرون على برامجكم الحسينية كما تريدون، سيأتي أناس متطرفون يفعلون بكم ما لا ترضوه! فالأحسن والأسلم لكم التراجع والقبول بما تملي عليكم الحكومة!

قبل هذا؛ سمعنا في السعودية نفس النغمة من السلطات هناك تحذر أصحاب المواكب من جماعات تكفيرية يغيضها مظاهر الحزن على الامام الحسين، مثل رفع الرايات، واصوات العزاء والبكاء واللطم! وفي حوار محتقن وسريع جرى بين شقيق أحد الشهداء في القطيف سقط بتفجير ارهابي قبل سنوات، مع وزير الداخلية الأسبق؛ محمد بن نايف، نهى الأخير من إجراءات تتخذها الحسينيات بتكفّل أمر حمايتها بنفسها، بالقول: "لا تقوم أنت بعمل الدولة"! فإما أن تنصاع لأوامر السلطة، أو تموت بسكين هذه السلطة التي يحملها التكفيريون.

حكومة طالبان في أفغانستان تعلمت الدرس جيداً من اصدقائهم، فدعوا أصحاب الحسينيات في اجتماع مع المسؤولين وعلماء الدين الشيعة مؤخراً في مدينة غزنه من مغبة التعرض لهجمات التكفيريين دون أي وعود بحمايتهم كونهم السلطة الحاكمة.

هذه الفكرة الإبداعية للحرب النفسية مستقاة من أول مبتكر لها وهو؛ عبيد الله بن زياد، والي الكوفة من قبل يزيد بن معاوية خلال اجراءات تعبئة أهل الكوفة لتشكيل جيش مطيع يقاتل الامام الحسين في كربلاء، فقد ادرك ابن زياد بمجسّاته وجود نسبة عالية من الولاء والحب للإمام الحسين لما لمسوه من سياسات العدل والمساواة والحرية والكرامة في عهد أبيه أمير المؤمنين، ومعرفتهم بمكانته عند رسول الله، وفي نفس الوقت تيقّن من كرههم لمعاوية والنظام الأموي منذ حرب صفين، وتنفسهم الصعداء بعد سماع نبأ موته، وأول دليل له؛ كمية رسائل البيعة والوعود بالتزام طاعته كخليفة وحاكم حال وصوله الكوفة. 

تفيد المصادر التاريخية أن أهل الكوفة الذين كانوا قوام جيش أمير المؤمنين آنذاك، خبروا من جيش معاوية؛ الغلظة والقسوة والغدر والفتك، وكل ما يثير في النفس الاشمئزاز والرهبة، فكانت الثغرة التي نفذت اليها إشاعة ابن زياد بأن "جش الشام يتربّص بكم" إذا ما تمردتم على حكم يزيد، في تحذير وتذكير بحرب صفين، وما خلقته من مشاهد الموت بالجملة من الطرفين، وحسب المصادر فقد حصدت هذه الحرب حوالي سعبين ألف قتيل من الجانبين. 

بهذا السلاح الفتّاك واجه ابن زياد العزيمة الرخوة لأهل الكوفة، لاسيما المناصرين لمسلم بن عقيل، وكان يفترض ان يتحولوا الى قوة عسكرية تحمي الحكم الرشيد متسجداً في الامام الحسين، وكانت النتيجة موتهم والفتك بهم معنوياً بعد هزيمة نفسية مُنكرة، فقد قتلتهم الإشاعة والخوف من جيش وهمي قبل ان يُقتل عدد كبير منهم بسيوف جيش الحق ويخسرون الدنيا والآخرة. 

بنظرة بسيطة الى معادلة القوة والضعف في الساحة، يمكن تفكيك هذه الإشاعة وإبطال مفعولها نهائياً.

إن التحذير بمن هو أقوى وأكثر فتكاً، يؤكد وجود قوة لا يُستهان بها، متسلحة بالوعي والحماس والإيمان بقضية كبرى وقيم سامية، مما يتطلب الأمر الاستعانة بقوة عسكرية أكبر في محاولة لزعزعة هذه الثقة بالنفس لاتخاذ قرار التراجع عن الثوابت والقبول بالأمر الواقع الذي تصنعه السلطات والانظمة الحاكمة على مر الزمن.  

إن تجربة العراق بعد انهيار حكم صدام ونظام حزب البعث، تمثل نموذجاً يحتذى به في القدرة على مواجهة هذا السلاح في سياق الحرب النفسية ضد الشعائر الحسينية، فقد شقت المواكب الحسينية وسائر الفعاليات طريقها وسط ساحة مليئة بالمفخخات والانتحاريين القريبين جداً من المدن الشيعية، وقد جرّب الطرف الآخر حظه في استخدام هذا السلاح فلم يجنِ سوى الخيبة والفشل، وربما لو أصروا على التفجير والفتك بالزائرين في ايام عاشوراء والاربعين كانت معالم الفشل والهزيمة تتبلور اكثر على الصعيد الداخلي والخارجي بفعل الاصرار المتزايد على إقامة الشعائر الحسينية وتحول العراق الحالي الى كربلاء ثانية ينتصر فيها الدم على السيف مرة أخرى، وتكون النتيجة عكسية بهزيمة تدوي بصداها أرجاء العالم الأسلامي، وربما العالم بأسره.

ولا تختلف التجربة بين العراق كبلد تقطنه الغالبية الشيعية، وبلد آخر تقطنه الأقلية الشيعية، بدليلين؛ الأول: سلاح الإشاعة المشترك في الحرب النفسية، وثانياً: القضية المشتركة التي من أجلها تتحرك الجموع أيام عاشوراء والاربعين لإحياء القضية التي ضحى من أجلها الامام الحسين وأهل بيته، فالوقوف بقوة في هذه الحرب، ليس فقط يهدد قوى الإرهاب التكفيري بالهزيمة المعنوية التي يخشاها أكثر من الهزيمة العسكرية، وإنما يهدد الانظمة السياسية بالصميم، وفي قاعدتها الجماهيرية التي تعدها مصدر شرعيتها، عندما يتضح أن النهضة الحسينية التي يسمعون عنها من الحسينيات في هذه الايام وايام الاربعين، إنما هي انعكاس للمطالب الانسانية الحقّة من حرية وكرامة ومساواة وعدل.

اضف تعليق