العاطفة؛ كانت وما تزال الوسيلة الأسرع والأنفذ لنشر الافكار بين الناس بسبب لغتها المفهومة والمحببة الى النفس الانسانية، بل انها تمثل جزءاً من تكوين الانسان، فكانت لغة الأدباء والشعراء والخطباء، فمدامت الفكرة والرؤية تتعلق بسلوك الانسان ونزعاته، كان لابد من الاستعانة بالعاطفة للتأثير على مسيرته في الحياة. وهذا ما نلاحظه في الأدب العالمي الذي انطلق من اوروبا وروسيا، فالروائي بالنسبة للشعوب هناك، يحتل منزلة أشبه ما تكون بـ "الرسول" لتسليطه الضوء على مفاهيم انسانية بلغة عاطفية ذكية، فنلاحظ الصراع بين الحب والكراهية، والتضحية والأنانية، وغير ذلك. وهي اليوم تمثل مصدر إلهام فكري وثقافي، ربما يفوق النتاجات الفكرية الاخرى التي اقتصرت على التنظير وطرح الافكار المجردة.
وقبل هذا لدينا القرآن الكريم، وهو الكتاب السماوي المجيد؛ اتخذ من العاطفة، وسيلة لتقريب العديد من المفاهيم والاحكام الى الانسان، فيما يتعلق بحياته الخاصة، وحياته الاجتماعية، فعلاقة الابن بأمه أثارها القرآن عاطفياً؛ {...و اخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة}، وهو تشبيه رائع لحالة الفراخ الصغيرة مع الطائر الأم، وكذا علاقة الزوج بزوجته؛ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وبالامكان ملاحظة اشارات عاطفية عديدة في القرآن الكريم فيما يتعلق بقصص الانبياء العظام؛ النبي يوسف، والنبي موسى ، والنبي عيسى، عليهما السلام. وكلها مشحونة بالدروس والعِبر والاحكام .
والعاطفة في اللغة تنمّ عن الرحمة والشفقة من انسان الى آخر. جاء في "لسان العرب": "عَطف الشيء، يَعطِفُه عطفاً: حنَاه وأماله، شدّد للكثرة".
هذه المقدمة، يراد منها، الاشارة السريعة الى اهمية لغة العاطفة في الخطاب الانساني، وتأثيره على مسار الفكر والثقافة في حياة الانسان. فالانسان لن يستفيد – من كثير من الاحيان- من الافكار المجردة، مهما كانت عظيمة وصحيحة، فهو يندمج ويتفاعل مع ما يتصل بضميره ومشاعره.
السهم الفاصل - القاتل
فاذا كانت لهذه اللغة هذه الاهمية في صياغة الوعي والثقافة، فان النهضة الحسينية التي تركت آثارها في الضمير والوجدان العالمي، حملت كمّاً هائلاً من هذه اللغة بصدق وشفافية متناهية، غيرت مفاهيم و افكار سادت عقود وقرون من الزمن، وأضاءت للانسانية طريقاً جديداً يكتشف من خلالها كيفية الوصول الى الحب الحقيقي وتجنّب الكراهية؟ ومتى يكون شديداً؟ ومتى يكون ليَناً؟ ثم أين تكمن القوة في شخصية الانسان؟ وما هي علائم الضعف؟
هذه الاسئلة كانت حائرة دون جواب قاطع حتى سقط ذلك السهم في عنق رضيع الامام الحسين، عليه السلام، وذبحه من الوريد الى الوريد، وأريق دمه الطاهر، وارتفع ذلك الدم الثائر الى السماء من كفّ الامام، عليه السلام، ليكون شاهداً على حقبة طويلة من نزعة انسانية مريرة، كما يكون حدّاً فاصلاً بين مفاهيم جاهلية، وبين الفكر الحضاري والانساني الذي بشّر به النبي الأكرم وأهل بيته، صلوات الله عليهم. وبذلك كان بامكان الانسان – منذ تلك اللحظة – الاختيار؛ إما القسوة والوحشية والعنف ثم الضعف، وإما الرحمة واللين والقوة الحقيقية. فقد صدر الأمر بقتل الرضيع من قائد الجيش "عمر بن سعد" الى "حرملة" بأن "اقطع نزاع القوم"، من اجل هدف رئيس يحرص عليه هذا القائد الواهم، وهي الحفاظ على قوة جيشه وعدم زعزعته امام جيش الامام الحسين، عليه السلام، عندما دبّ فيه الخلاف، بين من يشير الى سقي الرضيع الماء، وانه لا شأن له بالحرب التي جاؤوا من اجلها، وبين معارض لذلك.
الضربة القاصمة للتراث الجاهلي
قدم الاسلام كل شيء لتثبيت الاحكام والشريعة، فجاءت الآيات القرآنية بلسان عربي مبين، كما جاءت السنّة النبوية المطهرة، فعرف المسلمون الصلاة والصوم والجهاد والحج وغيرها من الفرائض الدينية والاحكام، ولو على شكل خطوط عريضة، فيما يتعلق بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية. بيد أن نقطة سوداء وزاوية مظلمة ظلت بعيدة في أعماق الغالبية العظمى من المسلمين، لم يصلها نور الرسالة، وهي نزعة العنف والقسوة والغلظة الموروثة من الجاهلية. فنحن نعجب من عدم اهتزاز مشاعر جيش ابن سعد، وهم يرون المشهد المريع لمقتل الرضيع في حجر أبيه، بغض النظر عن الاسباب والظروف المحيطة، فهو حادثة انسانية بحد ذاتها، بيد إن نظرة فاحصة الى نفوس هؤلاء، وتحديداً الى تلك الزاوية المظلمة، نجد أن الفاصلة بين هؤلاء وبين أولئك الذين كانوا يدفنون بناتهم بأيديهم وهنّ أحياء تلتقي أعينهم بأعينهنّ، دون أن يرفّ لهم جفن، يزيل عنّا العجب ويلغي علامة السؤال تماماً.
وهذه النزعة نفسها، كان لها دور كبير في رسم مصير آخر للمسلمين، بغير ما أراده له النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبالنتيجة حصول الانحراف التاريخي الفظيع، وتولّي أمور المسلمين أناس بعيدين كل البعد عن مواصفات الخليفة والقائد الذي يفترض ان يوجه الناس الى الطريق الصحيح. وينقل التاريخ عن عمر بن الخطاب عندما سألوه مرةً عن سبب معارضته تولي الامام علي بن أبي طالب الخلافة – أو مضمون الرواية- فقال: "إن فيه دعابة...."!! ولا أجدني بحاجة الى التعليق كثيراً على هذه الرؤية الموغلة بالجاهلية، بيد أن المهم معرفة أن المسلمين في تلك الحقبة بالذات، شهدوا ممارسات تعذيب وحشية ممن اطلقوا على انفسهم بـ"خلفاء" بحق أناس كثيرين، يسكت عنهم التاريخ ربما لكثرتهم، بيد أنه يفصح عمّا جرى لصحابه كبار من أمثال أبي ذر، وعمار وسلمان، هذا الى جانب الجريمة الكبرى التي ارتكبوها ضد أهل بيت النبي، بالهجوم على دار أمير المؤمنين والتجاوز على حرمة الصديقة الطاهرة، في القصة المعروفة، وإضرام النار وكسر الباب و... كل ذلك كان يحدث أمام مرآى ومسمع المسلمين الذين لم يفارقوا نبيهم إلا أيام قلائل!
وهكذا استمر الحال في ظل نظام حكم أرسى دعائمه الأمويون بدقّة متناهية، فكانوا يمارسون بكل حرية سياسة القمع والتنكيل الوحشي ضد المعارضين، بل حتى بحق الناس العاديين، ممن ليس لهم توجه سياسي – معارضاتي – إن صحّ التعبير- كما في قصة ذلك الشخص الذي جاء الى "الثاني" وسأله عن معنى الآية الكريمة: {وفاكهة وأبّا}، فكان الجواب هو الجلد بمئات المرات حتى كاد ان يُقضى عليه، لأنه سأل عن شيء لا يعرفه، كما بين له "الثاني" تهمته!
وإذن؛ فكان لابد من الوصول الى هذه النقطة المظلمة وإضاءتها بقوة، لكن كيف؟! لاسيما وأن الامة كانت قد وصلت الى الجدار الاخير بعقيدتها وثقافتها. فلابد من مخرج تتنفس من خلالها القيم والمفاهيم الانسانية السمحاء، وهذا لن يكون فقط من خلال المواقف والسيرة العطرة لأمير المؤمنين وابنه الحسن، عليهما السلام، فقط، وإنما بصرخة هائلة تهزّ الضمير الانساني من الاعماق، وتستنهض فيه مشاعر الانسانية للثأر من القسوة والعنف والدموية.
انتصار الرضيع والعاطفة
رغم القسوة والعنف الذي اتبعه الأمويون خلال فترة حكمهم، واستمرارهم بمحاربة أهل البيت، وابنائهم، عليهم السلام، واتباعهم، وكل ما تحوم حوله شبهة المعارضة، كما أوصاهم معاوية نفسه: "خذوهم بالظنة والتهمة...". إلا ان الثورات والانتفاضات الشيعية كانت تنفجر هنا وهناك استجابة لتلك الصرخة المدوية، فكانت تستنهض الضمائر والنفوس، فيعود الكثير من الناس الى رشدهم وينضمون الى صفوف الثورات، كما في "ثورة التوابين" و"ثورة المختار" والثورات المتتالية الاخرى. فمع وجود الشعار المدوي والشامل "يا لثارات الحسين"، فقد كانت الخطابات والدعوات تلهب النفوس وهي تصف المظالم التي لحقت بالامام الحسين، عليه السلام، وأهل بيته، وفي مقدمتها مشهد مصرع الطفل الرضيع، لان ذلك السهم أصاب الضمير الانساني، قبل ان يصيب عنقه، ويجعله في صفوف شهداء كربلاء. فالأمويون لم يسقطوا بفعل القوة العسكرية، وإن كان ذلك عاملاً فاعلاً على ارض الواقع، وإنما بفعل تلك الحماسة والعاطفة الجيّاشة التي خلقها ذلك المشهد الدموي المريع. فانطوت صفحة الحكم الأموي، وبقي الدرس التاريخي للاجيال بأن لغة العاطفة قادرة على تغيير مسار الشعوب والأمم، والقفز على هذه المسألة او تجاهلها او التقليل من شأنها، يمثل – بالحقيقة- خسارة كبيرة باستبدال المنظومة المفاهيمية والقيمية لأهل البيت، عليهم السلام، الذين يريدون دائماً لنا، الخير والحياة الكريمة، بمنظومة أخرى أقل ما نقول عنها بأنها "داعشية"!.
اضف تعليق