لعل اكثر الحوادث في تاريخ الاسلام تأثيرا في الوجدان الاسلامي هي مأساة الامام الحسين (عليه السلام) ورهطه الذين قضوا قتلا واسرا على صعيد كربلاء، ولقد تركت تلك الواقعة الاليمة بصماتها على الضمير الاسلامي جزعا او ندما او درسا خالدا في ذات الامة.
وكان الصميم في أرق الضمير وقلق الوجدان الاسلاميين، هو ان أمة أقدمت على قتل ابن بنت نبيها وانها لم تقدم على نصره والقتل دونه، واذا كان هذا الشعور قد اختص به اهل العراق والكوفة على وجه الخصوص منه، وقد استغلت من قبل خصومهم واعدائهم أسوأ استغلال ضدهم، فان العراق كان يمثل وأهله ثقل الدولة الاسلامية سياسيا واجتماعيا وعلميا، وان الكوفة كانت هي مدينة الاسلام الاولى، فلا غرابة ان تكون هي محور الحدث الاولى وفيها سينبثق تاريخ الطفوف بكل ما سيتركه من اثار عظام على الاسلام دينا ودولة واجتماعا.
وعلى مستوى الدين، فان الدين قد فهم انه دين العدل في الرعية والقسمة بالسوية منذ هذه اللحظة وبشكل عملي، وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الظلم والعدوان هي وظيفة من يقوم بأمر الله تعالى، واما على مستوى الدولة فان دولة الظلم والاستبداد دولة بني أمية قد أسقطتها وأزالتها دماء الطف وصبر الحسين على الشهادة كخيار لا ثاني له يستبدله هو، اما اجتماعيا فإنها قد وضعت الشيعة في الواجهة الدينية والمواجهة السياسية.
وقد فتق كل تلك الاحداث وأسس لها في تاريخ الاسلام هو ندم الضمير وقلق الوجدان في الكوفة، ومن العبث ان يستهان بهذا الندم والقلق الذي ساد الكوفة في أعقاب قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) فقد ترتبت عليه كل تلك الاحداث الجسام.
اذا فالندم والقلق الكوفيين كانا هما ميكانزمات المتغير التاريخي والاجتماعي الاسلامي، وفي هذا المتغير الاجتماعي فان طبقة الموالي – الحمراء وطبقات أخرى كانت تعيش على هامش الحياة الاجتماعية الاسلامية، كانت تشكل نسبة غالبة في الحركات التي طلبت ثأر الحسين (عليه السلام) لاسيما في حركة المختار الثقفي، وفي حركة (المسودة) وهي الدعوة الحسنية، ثم العباسية، وهي حركات ثورية فسحت لهم كل ذلك المجال للظهور في الحياة الاسلامية لأنها كانت حركات تسوق ايديولوجياتها الدينية والسياسية للثأر للحسين بن علي (عليهما السلام) ولزيد بن علي بن الحسين.
وقد كانت اول مطالبة بثأر الحسين وأول حركة نهضت بمسؤولية التكفير عن ضمير الامة قد عرفت باسم حركة التوابين، وكانوا يرون قتلهم تكفيرا عن ذنبهم وهم يستحضرون ما أمر الله به بني اسرائيل حين عصوا نبيهم موسى بقوله "فاقتلوا أنفسكم".
وقد كان شعارهم "يامنصور أمت" تعبيرا عن رغبتهم بالموت تكفيرا عن قعودهم عن نصرة ابن نبيهم وامامهم، لاسيما وان منهم من كتب اليه ودعى الى نصرته وكان من خيار شيعة أبيه وأخيه وشيعته.. اذا أي شعور من الندم كان يكتنف نفوس القوم وأي ملامة كانت تقض مضاجعهم اذا استحضروا يوم الحسين ومأساته؟...
ولازال الجرح غائرا في الضمير الاسلامي وحرارة قتل الحسين لازالت جمرة في قلب كل مؤمن..
بدء قلق الضمير على مصير الحسين
ويبدو ومن خلال روايات تاريخية تتواتر في كتب المؤرخين المسلمين، ان الامة كانت تستشعر خطورة المنزلق الاجتماعي والاخلاقي والقيمي الذي توشك ان تسقط فيه بقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) وكانت تستحضر الجزع في مصيره وقبل وقوعه. وقد انتاب ضمير الامة قلقا منذ ان عزم الحسين على لقاء القوم فلم تعدو الحياة بالنسبة اليه الا برما مع قوم ظالمين كما يقول هو عليه السلام وقد أمسكوا بخناق الدنيا والدين.
فقد حاجج اشراف العرب وكبار المسلمين ووجهائهم ابا عبد الله الحسين (عليه السلام) يناشدونه ترك الامر الذي عزم عليه في الخروج على سلطان السوء يزيد بن معاوية، وكان مبعث احتجاجهم ومبدأ مناشدتهم هو القلق على الذات الاجتماعية لامة العرب المسلمين والحرص أن لا يصيبها الهوان وانهيار جملة من القيم التي تشد هذه الذات وتؤسس لها وجودها الاجتماعي او نظامها ذي التراتبية القيمية المستندة الى معايير الشرف الاجتماعي والمكانة الدينية، والتي كان الحسين بن علي (عليهما السلام) يحتل بموقعه الاجتماعي والديني في ذروة سنامها، وكان بمثابة اللحمة بين مناقب العرب وفضائل الاسلام في النظرة العربية الاجتماعية السائدة آنذاك تجاه الحسين بن علي (عليهما السلام)، ولذلك كان هؤلاء الاشراف ووجهاء المسلمين من العرب يخشون على انهيار معايير الشرف بقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) ومايترتب عليه من زعزعة هيبة العرب اذا يقتل سيدهم، وهو ما افصح عنه عبد الله بن مطيع العدوي حين خاطب الحسين طالبا منه ترك الامر الذي عزم عليه قائلا له "انت سيد العرب في دهرك هذا" في رواية أعثم الكوفي، وفي رواية الطبري التقى بعبد الله بن مطيع العدوي فقال له: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك ؟ فأخبره الحسين بخبره فقال ابن مطيع: أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام ان تنتهك، أنشدك الله في حرمة رسول الله (ص)، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك: ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا، والله انها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب، وفي رواية "ليسترقن بعدك الاحرار" وفي رواية ابن سعد في طبقاته "بابي وأمي أمسك علينا نفسك فو الله لئن قتلوك ليتخذنا هؤلاء عبيدا".
وهكذا بدا قلق ضمير أشراف العرب وكبار المسلمين على نفس الحسين بن علي (عليهما السلام) وقد كانت نصيحة ابناء الصحابة والمهاجرين وهم رؤوس هذه الطبقة وبعض بني عمومته وأخيه أبن الحنفية تترا للامام الحسين أن لايخرج الى قتال سلطان السوء فانه لامحالة قتيل شهيد، وكانوا أشد الناس حرصا على إمساكهم بنفسه حتى تمنى البعض منهم أن لو قدر له أن يمسكه عن الخروج بالقوة لفعل.
وكان القصد في ذلك إمساك معايير الشرف والمكانة أن تتزحزح أو يستهان بها من الان فصاعدا غداة قتل الحسين بن علي (عليهما السلام). ولاينكرن احد حبهم له وتعلقهم الديني به، فقد وصفه عبد الله بن جعفر بانه نور الارض وعلم المهتدين ورجاء المؤمنين، وقد بلغت مكانة الحسين عليه السلام الدينية عند المسلمين أن الفرزدق الشاعر ينقل عن الناس في عصره انهم كانوا يعتقدون بعدم قدرة السهام والسيوف أن تأخذ حسينا أو تصل الى جسده وفق رواية الطبري عن لبطة عن أبيه الفرزدق، لكن القلق على الحسين (عليه السلام) ومصيره كان يساوره قلقا آخر على مصير الامة وجملة القيم الانسانية والاجتماعية والاخلاقية التي أرستها فضائل الاسلام ومناقب العرب التي إستوعبها الاسلام ضمن منظومته الدينية والأخلاقية.
لكن الامر المهيب قد وقع وقتل الحسين بن على عليهما السلام قتلة هي ابشع حتى من قتلة جاهلية أورثت تلك الجمرة في قلوب المؤمنين، فلم تكن الرؤوس في الحرب تقطع أو تشال فوق الرماح ويطاف بها بالبلدان، وكأنه أمر يراد به سحق كل القيم المرساة بفضل الاسلام ومروءة العرب التي خاطبهم بها الحسين بن علي (عليهما السلام) في الطف فلم يجد النداء بها شيئا..
ووقع ماكان يخشاه أشراف العرب وكبار أهل الاسلام، فقد لحق الاذلال بهذه الطبقة وشملتها سياسة الظلم والجور، حتى أخذت منهم البيعة لسلطان السوء يزيد أنهم خول له وعبيد، وقد سئل احد العرب متى ذلت العرب فقال منذ أن قتل الحسين بن على وقال شاعر العرب في هذا العصر:
وان قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاب المسلمين فذلت
وهكذا نجد أن الضمير الاسلامي كان ينتابه القلق قبل مقتل الحسين بن علي عليهما السلام وكان الباعث عليه هو التوجس او الخوف الصريح ان تنتهك حرمة الاسلام والعرب بعد مقتله، وإنتاب القلق هذا الضمير أيضا بعد مقتله وكان الباعث عليه هو الشعور بالإثم في القعود عن نصرته، لكن تفاعل هذا القلق في النفس المسلمة أقلق أخيرا أركان دولة بني أمية فأسقطها ودك عروشها حتى استؤصلت دولتهم وقومهم فصار من العار ان ينعت عربي بلقب أموي، ولاتجدن في العرب والى هذا اليوم من يقول في نسبه صراحا أنه أموي وهو من أعراقهم أو من بقايا أنسابهم...
اضف تعليق