ما المفارقة القائمة بين الماضي والحاضر في المراثي الّتي تُحيي في نفوسنا ووجداننا محبة الحسين (ع)، وتوقد فينا حرارة لا تبرد مهما طال بنا الزمن؟ وكيف يبرز تأثيرها على المتلقي؟ ان الحاضر امتداد للماضي وإن اختلفت الصورة ببعض مظاهرها وتفاصيلها، فالجوهر واحد، والاتجاه واحد...
بقلم: سراج أحمد حيدر الأسدي
يحملُ الزمن في جُعبته تاريخ أُمم وشعوب، وأقوام عبروا، وخلّفوا وراءهم حضارات ومآثر، وثقافات، ونظماً فكرية، وعقائد دينية، وتراثاً وآثاراً تشهدُ على حضاراتهم عبر العصور، وقد اتسم كل عصر بِسمات ميزته عن غيره من العصور، إن لجهة الحركة الفكرية، والعلمية، والتطورية على صُعد ومستويات متنوعة.
ومن أعظم ما انبثق من تاريخ الأمم، ذلك العصر الذي شهد نبوة محمد بن عبد الله "ص"، خاتم النبيين، صاحب الرسالة السماوية التي لم تكن لقومه وأمته فحسب، وإنما هي رسالة للعالمين، تحت عنوان الإسلام، إذ بعثه اللّه رحمة للعالمين.
وقد شاء الله لهذه الرسالة أن تُنشر، وتُصان، وتمتد من خلال بيت النبوة الذي امتدت فروعه إلى الإمامة التي بذلت في سبيل الله والإسلام المُهج والأرواح ليبقى دين الله الحق خالداً إلى قيام الساعة.
وحين قال الرسول الأكرمُ (ص): "حُسَيْنٌ منّي وأنا من حُسين، مَنْ أحبّهُ فقد أحبّني، ومَنْ أبْغضهُ فقد أبْغضَني "، كان في ذلك دلالة وإشارة واضحة إلى أن الإمام الحسين عليه أزكى الصلوات والسلام، كان قطباً أساسياً من أقطاب الرسالة التي سيحفظها على امتداد العصور إلى يوم البعث، وكان مبعوثاً من جده، وجده مبعوثاً منه، لذلك كانت ثورته قيامةً لدين محمد إلى يوم الدين، بعد أن أراد بنو أمية طمس معالمه الحقة، والاستئثار بخلافة المسلمين، وتحويل الدين الإسلامي إلى ما يُرضي أهواءهم وأطماعهم الدنيوية، ضاربين بعرض الحائط جميع القيم الإسلامية التي جاء بها الرسول الأكرم ليُصلح بها البشرية، ويُوجّهها إلى الصراط المُستقيم.
من هنا كانت الثورة الحسينية، وواقعة كربلاء التي حفرت في عمق التاريخ، والتي طارت سيرتُها الملحمية إلى جميع أصقاع الأرض، وبقيَ صداها يرجع عبر العصور منذ ١٤٠٠ عام. كان الحسين "ع" في هذه المعركة المصيرية لدين الله يواجه ألدَّ أعداء الدين، وقد كانت معركته هذه ملحمة بطولية مأساوية بذل فيها نفسه وأهل بيته قرابين لله في سبيل إعلاء كلمة الحق ونُصرة الدين القويم دين جده محمد "ص"، وخُلّدت هذه الملحمة لما كان لها من عظيم الأثر في نفوس الذين وقفوا على الحق، وأخذوا على أنفسهم إحياء هذه السيرة والنهج الحسيني على امتداد العصور، ليبقى الحسين حياً فينا ولنبقى أحياءً فيه.
وهنا يكمن الطرح: كيف تسنّى لأتباع الحسين ومُحبيه، والموالين لبيت النبوة الشريفة أن يُحيوا ذِكر الحسينِ بعدما أطلقت أخته السيدة "زينب" (ع) شرارة الإحياء في حضرة الطاغية اللعين "يزيد"؟.
التاريخ حاضر وموثّق على يد رواة ومؤرخين ثقات، نقلوا المشهد الكربلائي وما عقبه من حركة جهادية للأئمة بعد الإمام الحسين "ع"، وقد وصلت الصورة إلى الأجيال اللّاحقة، رغم ما بُذل من جهود لتشويشها وطمسها من قِبل المعادين لدين محمد "ص"، فعمدوا إلى التمسك بسفينته سفينة النجاة، ولجأوا إلى إظهار وتجسيد أعظم القيم والدروس التي انبثقت عنِ المدرسة الحسينية الرائدة، رافق ذلك إحياءات مستديمة عبر الزمان لذكرى مُصابه ومُصاب أهل بيته الأليمة، واستحضروا المشهد الأليم بكل تفاصيله، وأحيوا عزاءه، وبكوه وأهل بيته كما لو كان المشهد ابن لحظته، وتعلّقوا بهواه، ولطموا صدورهم ورؤوسهم، وندبوه بحرقة، وحرارة شوق وحب خالص له، لأنه وأهل بيته قربان لدين جده رسول الله "ص".
وهنا تبرز الإشكالية التي جعلتنا نتساءل عن المفارقة في إحياء عاشوراء الإمام الحسين "ع" وإقامة مجالسِ العزاء وولائم الخير على محبته، إذ يطرح السؤال نفسه: ما المفارقة القائمة بين الماضي والحاضر في المراثي الّتي تُحيي في نفوسنا ووجداننا محبة الحسين "ع"، وتوقد فينا حرارة لا تبرد مهما طال بنا الزمن؟ وكيف يبرز تأثيرها على المتلقي؟.
مما لا شك فيه، أن الحاضر امتداد للماضي وإن اختلفت الصورة ببعض مظاهرها وتفاصيلها، فالجوهر واحد، والاتجاه واحد، ألا وهو التعبير عن الموالاة للمدرسة الحسينية بكل تعاليمها وقيمها؟.
ومن المُسلّم به أن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تنطفئ مهما امتدت العصور، وهذه الحرارة تستعر كُلما دارت الأيام ووقفنا على أبواب الشهر الحرام، فيعمد الموالون من شيعة آل بيت محمد (ص) إلى إحياء ذكره، وترسيخ رسالته التي خرج من أجلها لمقاتلة عدو الله والإسلام والتي عبّر عنها بقوله (ع): "إنّي لمْ أخرجْ أشرًا ولا بطِرًا، ولا مُفسِدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجْتُ لِطلَبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي، أريدُ أنْ آمرَ بالمعروفِ، وأَنْهى عنِ المُنكرِ، فَمَنْ قبلَني بقبولِ الحقِّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبرْ حتّى يقضيَ اللهُ بيني وبينَهُ بالحقّ، وهو خيرُ الحاكمين".
ولكن، كان لإحياء ذكرى عاشوراء الإمام الحسين "ع" مجموعة كبيرة من المظاهر والعادات والشعائر، التي أراد الناس من خلالها إظهار حبهم له، وتأكيد ثباتهم على نهجه ورسالته التي حمّله إياها جده رسول الله (ص).
فمن مظاهر الإحياء التي اعتمدها الناس وكانت جسراً اتصل به الماضي بالحاضر، إقامة مجالس العزاء الحسيني، ورواية سيرته الجهادية، وتسليط الضوء على المشهد الكربلائي الأليم، كل ذلك كان يرافقه بكاء ولطم، وتطبير، وطهي لبعض الأطعمة المرتبطة بالمناسبة وتوزيعها على الناس حباً بسيد الشهداء "ع" .
كما كانوا يجسّدون الواقعة الأليمة من خلال مسرحيات تمثيلية "تشابيه" يتركّز عرضها في نقطة مركزية يؤمّها الناس من جميع المناطق المحيطة. وكل هذه المظاهر لا زالت قائمة إلى أيامنا هذه، ولكن على نطاق أوسع، وبصورة ذات ملامح جديدة. وتبقى المفارقة الخفية التي نتساءل عنها، ونبحث عن مكمنها، والتي نعثر عليها في مجامع القلوب والنفوس، إذ يتبين لنا أن الإحياء للمراثي الحسينية في الماضي كان يحتفظ بجوهر عظيم يتجلى من خلاله الحب العميق لأبي عبد الله الحسين والذي لا تشوبه شائبة، رغم ما كان يقع من مبالغات في رواية السيرة الحسينية، إلا أن التمظهر الخدّاع عند البعض كما في عصرنا اليوم، لم يكن موجوداً، بل لا أثر له.
ومما تجدر الإشارة إليه، ما كانت تفتقر إليه المجالس الحسينية في الماضي من توظيف للدروس والقيم التي انبثقت عن الملحمة الحسينية، والنهج الحسيني. فكان جل اهتمامهم إحياء الواقعة الكربلائية بسردها بأساليب مُفجعة تثير العاطفة، وتستدرّ البكاء، وتحفر في عمق النفوس مظلومية الحسين "ع".
أما اليوم، فقد تلوّنت مشاهد الإحياء، واتسعت دائرتها، وحافظت على المظاهر القديمة والعادات المُتّبعة، وأُضيفت إليها مظاهر أُخرى عديدة، كإطلاق المسيرات الكبرى في المدن والقرى، وإنشاد الأناشيد الحسينية الثورية، وتنظيم المواكب الّتي تعرض لمظاهر عديدة من رفع للرايات الحسينية مرفقة برايات الأحزاب التي تنهج نهج الحسين، وتعمل على الاستمرار في ثورته ضد الظلم والكفر والطغيان، والانتصار للحق مهما كلّف الأمر من صعاب، كما تعرض للمجسّمات الّتي تقرّب المشهد إلى الواقع نوعاً ما، كل ذلك في أجواء من النغمات المنسجمة مع المناسبة.
كما ونشير إلى الولائم والمضافات الكبرى التي تُقام على حب سيد الشهداء "ع"، ومايتم إنفاقه وتوزيعه على الناس، وذلك تعبيراً عن المحبة الكامنة في النفوس، وكسباً للأجر والشفاعة.
في الرؤية الأولى، نجد صورة رائعة لإحياء ذكرى عاشوراء، ولكن إذا بعُدت الرؤية أكثر، تبين لنا أن المظهر عند الكثير من الناس قد طغى على الجوهر، فراحوا يتبارون في المجالس، وفي الولائم، وفي شعائر الإحياء، وبالغوا مبالغات كبيرة أخرجت النفس من حيّز العلاقة الروحية إلى حيّز التمظهر والتنافس، وهذا ما ينأى بالإحياء عن هدفه الأسمى.
هذا لا ينطبق على الجميع بالطبع، فإن هناك فئة أدركت أهمية الإحياء، والأهداف المتوخّاة منه، فلجأت إلى إظهار تعاليم المدرسة الحسينية، واقتباس الدروس من واقعة كربلاء، وتوجّهت في المراثي إلى الخطاب الذي يؤثر في النفس ويبكيها، ومن ثم في الوقت ذاته يُضيء هذا الخطاب الجانب الساطع من ثورة الحسين "ع"، وأتبعت ذلك بخُطب تتناول الأوضاع السياسيّة والاجتماعية في البلاد، وتربطها بالعِبَر والدروس المستوحاة من عاشوراء.
وبالفعل هذا ما يجب اعتماده في إحياء مراسم عاشوراء، إذ من المهم جداً أن نحزن لمصاب الحسين، ولكن الأهم إظهار الجانب القوي في شخصية الإمام وأهله وأصحابه، وتسليط الضوء على منهج هذه المدرسة الحسينية السامية الأهداف، والمثالية، والتمسك بهذا الخط والنهج الذي ترخص فيه الأرواح في سبيل الله ودين الحق.
اضف تعليق