أسألك كقارئ، ماذا تتذكر من زيارة الأربعين قبل عشر سنوات؟ ستجد نفسك لا تتذكر إلا القليل، من الذي يحفظ تراثك في الأربعين، إنه التوثيق الذي جعل الأمم تعبر من مرحلة الركود إلى التقدم، لأن حفظ التراث لا يعني توثيق الأحداث في صور فقط، إنما الاستفادة منها وأخذ الدروس والعبر من الأخطاء وتصحيحها، والإيجابيات وتعزيزها...
إذا أردنا لزيارة الأربعين أن تكون نافذة مضيئة لأجيال المستقبل، علينا بتوثيقها، ما نحبه منها ومن لا نحب، ما نراه إيجابياً يراد تعزيزه، وما نعتقده خارج إطار الأهداف السامية لهذه الشعيرة الحسينية السنوية، لأن الجيل التالي لا يمكنه تحقيق الاستفادة دون عرض الصورة الكاملة.
التوثيق المهني والصادق يمثل الحماية التاريخية لإرث زيارة الأربعين، وكان الواجب علينا ككتاب وباحثين ومهتمين أن نؤسس لمركز يعنى بتوثيق زيارة الأربعين منذ سقوط النظام البعثي، إذ مَثّل هذا الحدث علامة تاريخية فاصلة بين أيام المطاردات والزيارة بالتخفي، وبين مسير الحشود المليونية على الشوارع العامة من جميع أنحاء العراق، فضلاً عن الوفود من دول الشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم.
ومن المفارقات أننا أكملنا في هذه السنة 20 عاماً بعد سقوط نظام البعث الإجرامي، ومن ولد في عام 2003 أصبح عمره الآن 20 عاماً، هؤلاء هو جيل الشباب الحالي، وهم من يقودون المستقبل، لكن المؤسف أن نسبة كبيرة من هؤلاء لا يعرفون عن زيارة الأربعين في فترة ما قبل 2003، وبعضهم نسي ما جرى خلال سنوات الاحتلال الأولى، وضاع عليهم التاريخ الذي عايشوه أو عايشوا من عايشوه.
ليس جيل 2003 وحدة الذي فقد إرشيف زيارة الأربعين خلال فترة حكم البعث، بل أن الزوار الذين كانوا يمشون سيراً على الأقدام ويطاردون من قبل أعضاء حزب البعث لا يملكون أي أرشيف من الزيارة سوى بعض الذكريات التي يتحدثون فيها شفوياً، لا يوجد شيء يوثق مسيرة الأربعين خلال تلك الحقبة.
إذا كان هذا هو حال الجيل الذي عايش الزيارة، فما بالك بالأجيال التي سوف تأتي بعد قرون؟
من الذي يضمن أن الخبر الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط عام 2016 ضد زوار الأربعين أن لا يكون وثيقة تاريخية بعد 50 أو 100 عام، ويحاجج بها على أن الزيارة سلوك سلبي وخارج عن إطار التعاليم الإسلامية.
من يضمن عدم تحريف الشعائر الحسينية التي تمارس اليوم، وتصور بطريقة مختلفة أو يتم انتقاء بعض منها، وبما يشوه صورتها الحقيقية؟
ربما تكون هذه المخاوف غير مبررة بالنسبة لبعض القراء، على اعتبار أن العراق بات يملك اسطولاً من القنوات الفضائية والمؤسسات الإعلامية، فضلاً عن المؤسسات المعنية بتصوير الجزء الأكبر من الزيارة، وهو اعتراض صحيح إذا كانت قنواتنا الفضائية ومؤسساتنا الدينية تتمتع بنوع من الاستقرار الذي يجعلها قادرة حماية تراث وتاريخ الأربعين.
وعندما أقول حماية تراث الأربعين، فهذا يعني توثيق الجزء الأكبر من الزيارة، عبر أخذ عينات مصورة ومكتوبة ومسجلة على أشرطة فيديو لكل شعيرة حسينية منذ انطلاق الزوار وحتى وصولهم إلى كربلاء المقدسة.
العتبة الحسينية انتبهت مؤخراً لأهمية توثيق الزيارة الأربعينية، فقد بدأت بنقاشات وحوارات منذ عام 2016 وما قبل هذا التاريخ، لكن هذه الموسوعة في طور التكوين ولم تصل إلى مرحلة الاستفادة القصوى من التقنيات الحديثة التي تعتمد على البيانات الكبيرة، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها لتسهيل عملية التوثيق، وعملية الاسترجاع على حد سواء.
وهناك فريق يرى بأن الأربعينية محفوظة ليس من خلال الورق والوثائق والصور، إنما يحفظها الله، ويديمها الولاء المطلق لمحبي أهل البيت من زوار وخدام للزوار ورواديد وخطباء المنبر، وغيرهم ممن يشاركون بشكل سنوي في أصعب الظروف وأسهلها.
نعم مرة أخرى وأخيرة، هؤلاء هم جوهر استمرار زيارة الأربعين بغض النظر عن التوثيق الذي نتحدث عنه، إلا أن العالم يتغير بشكل هائل، ومن خلال مواكبة التطور العلمي والتقني، وتوظيفه في حفظ تراث الأربعين، يمكننا ليس الحفاظ على الزيارة فقط، بل الاستفادة منها كقوة ناعمة تخدم العراق وتعزز موقعه بين دول العالم، وتزيد من مكانة الزيارة على مستوى العالم وبين جميع البشر، لا أن تكون مقتصرة على محبي أهل البيت عليهم السلام.
وفي الختام، أسألك كقارئ، ماذا تتذكر من زيارة الأربعين قبل عشر سنوات؟ ستجد نفسك لا تتذكر إلا القليل، من الذي يحفظ تراثك في الأربعين، إنه التوثيق الذي جعل الأمم تعبر من مرحلة الركود إلى التقدم، لأن حفظ التراث لا يعني توثيق الأحداث في صور فقط، إنما الاستفادة منها وأخذ الدروس والعبر من الأخطاء وتصحيحها، والإيجابيات وتعزيزها.
اضف تعليق