إن حل مشكلة الفقر، ولو بشكل جزئي، يُعد انجازاً هائلاً لشعيرة حسينية لا علاقة لها بمشروع خيري منظم، ولا خطة اقتصادية حكومية، مع أبعاد اجتماعية ونفسية ودينية تؤشر على شمولية الشعائر الحسينية لمختلف جوانب حياة الانسان، وانها أبعد من حاجة الطعام والسكن للزائرين، وإن كانت ضرورية ومطلوبة، بيد أنها تنتهي خلال ايام وينتهي كل شيء...
أكد العلماء غير مرة على إغناء المسيرة المليونية للزائرين المشاة في اربعينية الامام الحسين، بالمفاهيم الانسانية ذات الصلة بقيم النهضة الحسينية، بل و قيم ومبادئ أهل البيت، عليهم السلام، ومنها؛ التكافل الاجتماعي، فاذا كانت الهيئة الحسينية تحرص على تفعيل هذه الفكرة ضمن نشاطاتها الخيرية والتنموية طوال أيام السنة في محيط البناية المشيّدة، فان المشاة بمئات الآلاف في الطريق الطويل يمثلون محاولة جادّة وعملية لهذا التفعيل.
من أبرز مشاهد هذه الزيارة؛ وجود أناس يبدو عليهم ضعف الحال، وقلّة ذات اليد، وهم يحرصون على تقديم ما عندهم لاستضافة الزائرين المشاة، سواءً؛ بالماء، او الطعام، او حتى بقطع المحارم (كلينس)، بل حتى بالسكن المجاني وخدمات اخرى تغيب عن الذهن لكثرتها وتنوعها.
هذه المناظر التي تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي تثير الكثير من الاسئلة حول الدوافع، وما يريده هؤلاء من الامام الحسين، عليه السلام، عندما يقدمون الماء والطعام بانه "بثواب الامام الحسين"؟
من الاجوبة؛ أنه الحب النابع من الولاء والايمان بحقانية قضية الامام، عليه السلام، ونهضته ضد الظلم والانحراف والفساد، الى جانب التفاعل العاطفي مع مظلوميته، ومظلومية أهل بيته من بعده، لذا نجد ثمة حرصاً واضحاً على مداومة الحضور على الطريق ليثبتوا اسمائهم فيمن يلتحق بقافلة الإصلاح في الأمة.
ومن جدير ذكره في هذا السياق، حرص اطفال معوقين، مثل تلك الفتاة الفاقدة إحدى ساقيها، وهي تقف على ساق واحدة لتقدم الماء الى الزائرين على الطريق، وغيرها من المشاهد المؤثرة، فهؤلاء الصغار، لم يكونوا قبل عشر سنوات عندما كان آباؤهم يؤدون هذه المهمة، بما يؤكد وجود عملية تثقيف حسيني من داخل بيوت الصفيح والطين والخالية من مستلزمات المعيشة الموجودة في معظم البيوت.
من الجيد والمفيد التفكير بالذات، ومحاولة الاستفادة من هذه الفرصية الذهبية للتغيير ومراجعة النفس وتهذيبها كما ذكرنا في المقال السابق، بيد أن الجيد ايضاً؛ التفكير بالآخرين من ابناء المجتمع المنكوب بالأزمات الاقتصادية والمعيشية، ومن أقرب من هؤلاء الطيبي القلب، والسؤال عن أحوالهم المعيشية، وما الذي يحتاجونه، ليس من باب المكافئة على استضافتهم مطلقاً، فهذه تأتيهم من الله –تعالى- أولاً؛ ثم من الامام الحسين، ثانياً، إنما الواجب الانساني والاخلاقي يدعونا للنظر في أوضاع هذه الشريحة الفقيرة والموالية لأهل البيت طوال حياتها.
هذه النظرة الاجتماعية تشمل كل جوانب الحياة المأزومة لدى قسم كبير من المُضيفين، وحسب المفردة المتبعة في العراق"المعزّب"، فثمة حاجة لإكمال الدراسة لفتاة او شاب، او مساعدة على إتمام مشروع زواج، او علاج مريض، ومن المؤكد أن المشاة على الطرق المؤدية الى كربلاء المقدسة أكثر عدداً من الحالات الانسانية المحتاجة للمساعدة، بل وأكبر بكثير من احتياجاتهم المادية، وهذا لن يدخل الفرح والسرور في قلوب هؤلاء فقط، وإنما الأهم منه؛ تكريس حالة اليقين بحقانية ما يعتقدونه، وأنهم على الطريق الصحيح، فهم يشاهدون تطبيقاً عملياً لمبادئ النهضة الحسينية بتوثيق عرى التواصل والتكافل بين افراد المجتمع والأمة بشكل عام، لاسيما وأن من بين المشاة؛ الايراني، والهندي، والتركي، والخليجي، ومسلمين من مختلف بقاع الارض.
إن حل مشكلة الفقر، ولو بشكل جزئي، يُعد انجازاً هائلاً لشعيرة حسينية لا علاقة لها بمشروع خيري منظم، ولا خطة اقتصادية حكومية، مع أبعاد اجتماعية ونفسية ودينية تؤشر على شمولية الشعائر الحسينية لمختلف جوانب حياة الانسان، وانها أبعد من حاجة الطعام والسكن للزائرين، وإن كانت ضرورية ومطلوبة، بيد أنها تنتهي خلال ايام وينتهي كل شيء، و يعود الزائرون والمضيفيون كلٌ الى حال سبيله، فكم هي الغبطة في نفوس المضيفين من الاطفال والنساء والرجال على طول الطريق الى كربلاء وهم يجدون أن زيارة الاربعين قلبت حياتهم رأساً على عقب، وكانت سبباً في حل أزمات خانقة صبروا عليها، وتعففوا عن الظهور بها خلال هذه الزيارة، فجاءت الايادي البيضاء لتكافئهم على ما صبروا وقدموا.
اضف تعليق