الامام قد ربح بتجارته وفاز بالفخر الذي لم يفز به أحد غيره، فليس في اسرة شهداء الحق من نال الشرف والمجد والخلود مثل ما ناله الامام فها هي الدنيا تعج بذكراه، وها هو حرمه المقدس أصبح اعز حرم وامنعه في الأرض. لقد رفع الامام العظيم راية الاسلام عالية...
وتتابعت الرزايا والخطوب يتتبع بعضها بعضا على ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهو لم يكد ينتهي من كارثة قاصمة حتى تتواكب عليه أشد الكوارث هولا واعظمها محنة.
لقد عانى الامام في تلك اللحظات الرهيبة من المحن الشاقة ما لم يعانه أي مصلح كان، ومن بينها:
أولا ـ انه كان ينظر الى مخدرات الرسالة وعقائل الوحي وهن بحالة من الذعر لا يعلمها الا اللّه ففي كل لحظة يستقبلن عزيزا من نجوم العترة الطاهرة مضمخا بدمائه الزكية لا يلبث أن يلفظ نفسه الأخير أمامهن ومما زاد في وجلهن ان الجفاة من الأعداء الذين محيت الرحمة من نفوسهم قد أحاطوا بهن، ولا يعلمن ما ذا سيجري عليهن من المحن بعد فقد الأهل والحماة، وكان الامام ينظر إلى ما ألم بهن من الخوف فيذوب قلبه أسى وحسرات فكان يأمرهن بالتجلد والخلود الى الصبر، وأن لا يبدين من الجزع ما ينقص قدرهن، واعلمهن أن اللّه يحفظهن وينجيهن من شر الأعداء.
ثانيا ـ ان الأطفال قد تعالى صراخهم من ألم الظمأ القاتل، وهو لا يجد مجالا لإغاثتهم، وقد ذاب قلبه الكبير حنانا ورحمة على أطفاله وعياله الذين يعانون ما لا طاقة لهم به.
ثالثا تعدي السفكة المجرمين بعد قتل أصحابه وأهل بيته الى قتل الأطفال الابرياء من أبناء اخوته وعمومته.
رابعا ـ مقاساته العطش الأليم، فقد ورد عن شدة ظمأه أنه كان لا يبصر السماء إلا كالدخان وان كبده الشريف قد تفتت من شدة العطش، يقول الشيخ التستري: «ان عطش الحسين قد أثر في أربعة أعضاء فالشفة ذابلة من حر الظمأ، والكبد مفتت لعدم الماء ـ كما قال (ع) ـ وقد أخبر بذلك حينما يئس من الحياة، وقد علموا أنه لا يعيش بعد ذلك فقال لهم: اسقوني قطرة من الماء فقد تفتت كبدي، واللسان مجروح من شدة اللوك ـ كما في الحديث ـ والعين مظلمة من العطش»(1)
خامسا ـ فقده للأحبة، من أهل بيته وأصحابه، فكان ينظر إلى خيمهم فيراها خالية فجعل يصعد آهاته واحزانه، ويندبهم بأقسى ندبة.
ان النفس لتذوب حسرات من هذه الخطوب التي ألمت بابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، يقول صفي الدين: «وقد لاقى الحسين من المحن والبلايا ما لا يستطيع مسلم أن يسمعه إلا ويذوب فؤاده» (2).
استغاثة الامام:
والقى الامام الممتحن نظرة مشفوعة بالأسى والحسرات على أهل بيته وأصحابه فرآهم مجزرين كالأضاحي على رمال كربلا تصهرهم الشمس، وسمع عياله وقد ارتفعت اصواتهن بالبكاء فأخذ يستغيث ويطلب الناصر والمعين ليحامي عن حرم رسول اللّه (ص) قائلا:
«هل من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه (ص)؟ هل من موحد يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في اغاثتنا؟» (3).
ولم تنفذ هذه الاستغاثة إلى تلك القلوب التي ران عليها الباطل وغرقت في الآثام... ولما سمع زين العابدين استغاثة أبيه وثب من فراشه، وجعل يتوكأ على عصا لشدة مرضه، فبصر به الحسين فصاح بأخته السيدة أم كلثوم! احبسيه لئلا تخلو الارض من نسل آل محمد، وبادرت إليه فارجعته إلى فراشه (4).
مصرع الرضيع:
أي صبر كان صبر أبي عبد اللّه؟!! كيف استطاع أن يتحمل هذه الكوارث.. انه صبر تعجز عنه الكائنات، وتميد من هوله الجبال، وكان من افجع وأقسى ما نكب به رزيته بولده عبد اللّه الرضيع فقد كان كالبدر في بهائه، فأخذه وجعل يوسعه تقبيلا ويودعه الوداع الأخير، وقد رآه مغمى عليه، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه من شدة الظمأ فحمله إلى القوم ليستدر عواطفهم لعلهم يسقوه جرعة من الماء، وعرضه عليهم وهو يظلل له بردائه من حرارة الشمس، وطلب منهم أن يسعفوه بقليل من الماء، فلم ترق قلوب اولئك الممسوخين، وانبرى الباغي اللئيم حرملة ابن كاهل فسدد له سهما، وجعل يضحك ضحكة الدناة وهو يقول مفتخرا أمام اللئام من أصحابه:
«خذ هذا فاسقه»
واخترق السهم ـ باللّه ـ رقبة الطفل، ولما أحس بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى الطفل رافعا رأسه الى السماء فمات على ذراع أبيه... إنه منظر تتصدع من هوله القلوب، وتلجم الالسن.. ورفع الامام يديه وكانتا مملوءتين من ذلك الدم الطاهر فرمى به نحو السماء فلم تسقط منه قطرة واحدة الى الارض ـ حسبما يقول الامام الباقر عليه السلام ـ، وأخذ يناجي ربه قائلا:
«هون ما نزل بي أنه بعين اللّه تعالى.. اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل، الهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة في الآجل، اللهم: أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (ص)».
ونزل الامام عن جواده وحفر لطفله بجفن سيفه حفرة ودفنه مرملا بدمائه الزكية، وقيل انه القاه مع القتلى من أهل بيته (5) لك اللّه يا أبا عبد اللّه على هذه الكوارث التي لم يمتحن ببعضها أي نبي من أنبياء اللّه، ولم تجر على أي مصلح في الارض.
صمود الامام:
ووقف الامام وحيدا في الميدان أمام أعدائه، وقد زادته الفجائع المذهلة ايمانا ويقينا في بشر وطلاقة وثقة بما يصير إليه من منازل الفردوس الأعلى.
لقد وقف ثابت الجنان لم يوهن عزيمته مصارع اولاده وأهل بيته وأصحابه ولا ما كان يعانيه من ألم العطش ونزيف الدماء، انه صمود الأنبياء وأولي العزم الذين ميزهم اللّه على بقية عباده، وقد روى ولده علي بن الحسين زين العابدين (ع) الصور المذهلة عن صبر أبيه وصموده قال: كان كلما يشتد الأمر يشرق لونه، وتطمئن جوارحه، فقال بعضهم:
انظروا كيف لا يبالي بالموت (6) ويقول عبد اللّه بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى اندغروا عنه (7) فو اللّه ما رأيت مكثورا قد قتل أولاده وأصحابه اربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا منه، وو اللّه ما رأيت قبله ولا بعده مثله (8) وكان يتمثل بقول ابن الخطاب الفهري:
مهلا بني عمنا ظلامتنا
إن بنا سورة من القلق
لمثلكم تحمل السيوف ولا
تغمز احسابنا من الرفق
إني لأنمى اذا انتميت
إلى عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كأن أعينهم
تكحل يوم الهياج بالعلق (9)
وحمل على اعداء اللّه فجعل يقاتلهم أشد قتال رآه الناس، وقد حمل على الميمنة وهو يرتجز:
الموت أولى من ركوب العار
والعار أولى من دخول النار
وحمل على الميسرة وهو يرتجز:
أنا الحسين بن علي
آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي
أمضي على دين النبي (10)
أجل أنت الحسين وأنت ملء فم الدنيا شرفا ومجدا، وأنت الوحيد في هذه الدنيا لم تنثن عن عزيمتك وارادتك، فلم تضرع ولم تهن ومضيت في طريق الكفاح تدك حصون الظالمين والماردين.
لقد مضيت على دين جدك الرسول (ص) فأنت الباعث المجدد لهذا الدين ولولاك لكان شبحا مبهما لا ظل له على واقع الحياة...
وروى ابن حجر ان الامام كان يقاتل وينشد هذه الأبيات:
أنا ابن علي الحر من آل هاشم
كفاني بهذا مفخرا حين أفخر
وجدي رسول اللّه اكرم من مشى
ونحن سراج اللّه في الناس يزهر
وفاطمة أمي سلالة أحمد
وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر
وفينا كتاب اللّه أنزل صادقا
وفينا الهدى والوحي والخير يذكر (11)
موقف المكرهين:
وانبرى بعض الأوغاد من المكرهين في جيش ابن سعد فأخذوا بالدعاء للامام بالنصر والتغلب على أعدائه يقول سعد بن عبيدة: إن اشياخنا من أهل الكوفة كانوا واقفين على تل وهم يبكون ويقولون: اللهم انزل عليه ـ أي على الحسين ـ نصرك، فأنكر عليهم سعد وقال: يا أعداء اللّه الا تنزلون فتنصرونه (12).
فزع ابن سعد:
وذعر ابن سعد من كثرة الخسائر التي مني بها جيشه، فراح الخبيث الدنس يثير النعرات ويؤلب الجيش على حرب ريحانة رسول اللّه (ص) قائلا:
«هذا ابن الانزع البطين، هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب».
لقد أثار ابن سعد الاحقاد الجاهلية على الامام فذكرهم بقتل امير المؤمنين للعرب، وعليهم أن يثأروا لدمائهم وهو منطق من لا علاقة له بالإسلام فان الامام امير المؤمنين لم يقتل العرب وانما قتل القوى الباغية على الاسلام والمنحرفة عن الدين.
ووجه ابن سعد الرماة نحو الامام فكان ـ فيما يقول المؤرخون ـ قد سددت نحوه أربعة آلاف نبلة فصار جسده الشريف هدفا لنبال اولئك البغاة (13) والتحم معهم التحاما رهيبا، وقد أبدى من البسالة ما لم يشاهد له نظير في جميع فترات التأريخ.
استيلاء الامام على الماء:
وألح العطش على الامام، وأضر به إلى حد بعيد، فحمل على الفرات، وكان الموكلون بحراسته فيما يقول بعض المؤرخين أربعة آلاف فانهزموا من بين يديه، واستولى على الماء فغرف منه غرفة ليروي ظمأه القاتل فناداه خبيث من القوم:
«أتلتذ بالماء؟!! وقد هتكت حرمك»
ورمى أبي الضيم الماء من يده، وآثر كرامة عائلته على عطشه واسرع الى الخيمة فاذا بها سالمة فعلم أنها مكيدة (14) يقول ابن حجر: ولو لا ما كادوه به من أنهم حالوا بينه وبين الماء لم يقدروا عليه إذ هو الشجاع القرم الذي لا يزول ولا يتحول (15).
الهجوم على خيم الحسين:
وتوسط أبي الضيم معسكر الأعداء وجعل يقاتلهم أشد القتال واعنفه وقد هجموا على خيمه ليسلبوا الحريم والأطفال فصاح بهم:
«يا شيعة آل أبي سفيان، ان لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم وارجعوا إلى احسابكم ان كنتم عربا كما تزعمون..» (16).
لقد جردهم الامام بهذه الكلمات من الاطار الاسلامي، واضافهم إلى آل أبي سفيان العدو الأول للاسلام وتزعم من بعده أبناؤه القوى الباغية عليه، وما كارثة كربلا الا امتداد لاحقادهم واضغانهم على نبي الاسلام... وقد دعاهم (ع) الى الاحتفاظ بالتقاليد العربية التي كانت سائدة في أيام الجاهلية من عدم التعرض للنساء والأطفال بأي أذى أو مكروه.
وانبرى الوغد الخبيث شمر بن ذي الجوشن فقال للامام:
«ما تقول يا ابن فاطمة؟»
وحسب الرجس أنه قد انتقص الامام بنسبته الى أمه سيدة النساء، ولم يعلم أنه نسبه إلى معدن الطهر والنبوة، وحسب الحسين فخرا ومجدا أن تكون أمه سيدة نساء العالمين حسبما يقول الرسول (ص) (17).
فقال له الامام:
«أنا الذي أقاتلكم، والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا».
فأجابه الشمر الى ذلك، وأحاط به القتلة المجرمون وهم يوسعونه ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح، فجعلت جراحاته تتفجر دما.
خطابه الأخير:
ووجه الامام (ع) وهو بتلك الحالة خطابا لأعدائه حذرهم فيه من غرور الدنيا وفتنتها، ويقول المؤرخون: انه لم يلبث بعده الا قليلا حتى استشهد، وهذا نصه:
«عباد اللّه، اتقوا اللّه، وكونوا من الدنيا على حذر فان الدنيا لو بقيت لأحد، وبقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرضا، وارضى بالقضاء، غير أن اللّه تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر، والمنزل بلغة، والدار قلعة فتزودوا فان خير الزاد التقوى، واتقوا اللّه لعلكم تفلحون» (18).
الامام يطلب ثوبا خلقا:
وطلب الامام من أهل بيته ان يأتوه بثوب خلق لا يرغب فيه احد ليجعله تحت ثيابه لئلا يسلب منه، فأتوه بتبان (19) فلم يرغب فيه وقال ذلك لباس من ضربت عليه الذلة، وأخذ ثوبا فخرقه، وجعله تحت ثيابه فلما قتل جردوه منه (20).
وداعه لعياله:
وقفل الامام راجعا الى عياله ليودعهم الوداع الأخير، وجراحاته تتفجر دما وقد أوصى حرم الرسالة وعقائل الوحي بلبس الأزر والاستعداد للبلاء، وأمرهن بالخلود الى الصبر والتسليم لقضاء اللّه قائلا:
«استعدوا للبلاء، واعلموا ان اللّه تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة امركم الى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم» (21).
تزول الدول، وتذهب الممالك، وتفنى الحضارات، وهذا الايمان الذي لا حد له أحق بالبقاء واجدر بالخلود من كل كائن في هذه الحياة أي نفس تطيق مثل هذه الكوارث، وتستقبلها برباطة جأش ورضا وتسليم لأمر اللّه، انه ليس هناك غير الحسين أمل الرسول الأعظم (ص) وريحانته والصورة الكاملة التي تحكيه.
وذابت أسى ارواح بنات الرسول (ص) حينما رأين الامام بتلك الحالة يتعلقن به يودعنه، وقد وجلت منهن القلوب، واختطف الرعب الوانهن، والتاع الامام حينما نظر إليهن وقد سرت الرعدة بأوصالهن يقول الامام كاشف الغطاء:
«من ذا الذي يقتدر أن يصور لك الحسين (ع) وقد تلاطمت امواج البلاء حوله، وصبت عليه المصائب من كل جانب، وفي تلك الحال عزم على توديع العيال ومن بقي من الأطفال فاقترب من السرادق المضروب على حرائر النبوة وبنات علي والزهراء (ع) فخرجت المخدرات كسرب القطا المذعورة فأحطن به وهو سابح بدمائه، فهل تستطيع أن تتصور حالهن وحال الحسين في ذلك الموقف الرهيب ولا يتفطر قلبك، ولا يطيش لبك، ولا تجري دمعتك» (22).
لقد كانت محنة الامام في توديعه لعياله من أقسى وأشق ما عاناه من المحن والخطوب، فقد لطمن بنات رسول اللّه (ص) وجوههن، وارتفعت اصواتهن بالبكاء والعويل، وهن يندبن جدهن الرسول (ص) والقين بأنفسهن عليه لوداعه، وقد اثر ذلك المنظر المريع في نفس الامام بما لا يعلم بمداه الا اللّه.
ونادى الرجز الخبيث عمر بن سعد بقواته المسلحة يحرضها على الهجوم على الامام قائلا:
«اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه، فو اللّه ان فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم».
وحمل عليه الأخباث فجعلوا يرمونه بالسهام، وتخالفت السهام بين اطناب المخيم، وأصاب بعضها ازر بعض النساء فذعرن ودخلن الخيمة وخرج بقية اللّه في الأرض كالليث الغضبان على اولئك الممسوخين فجعل يحصد رءوسهم الخبيثة بسيفه، وكانت السهام تأخذه يمينا وشمالا، وهو يتقيها بصدره ونحره، ومن بين تلك السهام التي فتكت به.
1 ـ سهم اصاب فمه الطاهر، فتفجر دمه الشريف فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت دما رفعه إلى السماء وجعل يخاطب اللّه تعالى قائلا:
«اللهم ان هذا فيك قليل» (23)
2 ـ سهم أصاب جبهته الشريفة المشرقة بنور النبوة والامامة رماه به ابو الحتوف الجعفي فانتزعه، وقد تفجر دمه الشريف، فرفع يديه بالدعاء على السفكة المجرمين قائلا:
«اللهم انك ترى ما أنا فيه من عبادك العصاة، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا» وصاح بالجيش:
«يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته، أما انكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي، وأيم اللّه اني لأرجو أن يكرمني اللّه بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون...» (24).
لقد كان جزاء الرسول (ص) الذي انقذهم من حياة البؤس والشقاء أن عدوا على ذريته فسفكوا دماءهم، واقترفوا منهم ما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه.. وقد استجاب اللّه دعاء الامام فأنتقم له من اعدائه المجرمين، فلم يلبثوا قليلا حتى اجتاحتهم الفتن والعواصف، فقد هب الثائر العظيم المختار طالبا بدم الامام فأخذ يطاردهم ويلاحقهم، وقد هربوا في البيداء وشرطة المختار تطاردهم حتى أباد الكثيرين منهم، يقول الزهري لم يبق من قتلة الحسين أحد الا عوقب اما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه، او زوال الملك في مدة يسيرة (25).
3 ـ وهو من أعظم السهام التي فتكت بالامام. يقول المؤرخون:
ان الامام وقف ليستريح بعد ما اعياه نزيف الدماء، فرماه وغد بحجر أصاب جبهته الشريفة فسالت الدماء على وجهه فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه، فرماه رجس بسهم محدد له ثلاث شعب فوقع على قلبه الشريف الذي يحمل العطف والحنان لجميع الناس، فعند ذلك أيقن بدنو الأجل المحتوم منه فشخص ببصره نحو السماء وهو يقول:
«بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه (ص).. الهي انك تعلم انهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري».
وأخرج السهم من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فأخذ يتلقاه بيديه فلما امتلأنا رمى به نحو السماء وهو يقول:
«هون ما نزل بي أنه بعين اللّه»
وأخذ الامام من دمه الشريف فلطخ به وجهه ولحيته، وهو بتلك الهيبة التي تحكى هيبة الأنبياء واندفع يقول:
«هكذا اكون حتى القى اللّه وجدي رسول اللّه (ص) وأنا مخصب بدمي..» (26).
4 ـ رماه الحصين بن نمير بسهم أصاب فمه الشريف فتفجر دما فجعل يتلقى الدم بيده ويرمي به نحو السماء وهو يدعو على الجناة المجرمين قائلا:
«اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا» (27).
وتكاثرت عليه السهام حتى صار جسده الشريف قطعة منها.. وقد أجهده نزيف الدماء واعياه العطش، فجلس على الأرض، وهو ينأ برقبته من شدة الآلام فحمل عليه وهو بتلك الحالة الرجس الخبيث مالك ابن النسر فشتمه وعلاه بالسيف، وكان عليه برنس (28) فامتلأ دما، فرمقه الامام بطرفه، ودعا عليه قائلا:
«لا اكلت بيمينك ولا شربت وحشرك اللّه مع الظالمين»
والقى البرنس واعتم على القلنسوة (29) فأسرع الباغي الى البرنس فأخذه وقد شلت يداه (30).
الامام مع ابن رباح:
وكان مسلم بن رباح هو آخر من بقي من أصحاب الامام، وكان معه، وقد أصاب الامام سهم في وجهه الشريف فجلس على الأرض وانتزعه، وقد تفجر دمه، ولم تكن به طاقة فقال لابن رباح:
«ادن يديك من هذا الدم»
فوضع ابن رباح يديه تحت الجرح فلما امتلأنا دما قال له:
«اسكبه في يدي»
فسكبه في يديه، فرفعهما نحو السماء وجعل يخاطب اللّه تعالى قائلا:
«اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك»
ورمى بدمه الشريف نحو السماء فلم تقع منه قطرة واحدة الى الأرض فيما يقول ابن رباح (31).
مناجاته مع اللّه:
واتجه الامام (ع) في تلك اللحظات الأخيرة الى اللّه فأخذ يناجيه ويتضرع إليه بقلب منيب ويشكو إليه ما ألم به من الكوارث والخطوب قائلا:
«صبرا على قضائك لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، مالي رب سواك ولا معبود غيرك. صبرا على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائما لا نفاد له يا محيى الموتى، يا قائما على كل نفس احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (32).
انه الايمان الذي تفاعل مع جميع ذاتياته فكان من أهم عناصره..
لقد تعلق باللّه وصبر على قضائه وفوض إليه جميع ما نزل به وعاناه من من الكوارث والخطوب، وقد أنساه هذا الايمان العميق جميع ما حل به يقول الدكتور الشيخ احمد الوائلي في رائعته:
يا أبا الطف وازدهى بالضحايا
من أديم الطفوف روض خيل
نخبة من صحابة وشقيق
ورضيع مطوق وشبول
والشباب الفينان جف ففاضت
طلعة حلوة ووجه جميل
وتوغلت تستبين الضحايا
وزواكي الدماء منها تسيل
ومشت في شفاهك الغر نجوى
نم عنها التحميد والتهليل
لك عتبى يا رب إن كان يرضيك
فهذا الى رضاك قليل
الهجوم عليه:
وهجمت على ريحانة رسول اللّه (ص) تلك العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام فحملوا عليه ـ يا للّه ـ من كل جانب وهم يوسعونه ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح فضربه زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضربه وغد آخر على عاتقه، وكان من احقد أعدائه عليه الخبيث سنان بن انس، فقد أخذ يضربه تارة بالسيف واخرى يطعنه بالرمح، وكان يفخر بذلك، وقد حكى للحجاج ما صنعه به باعتزاز قائلا:
«دعمته بالرمح، وهبرته بالسيف هبرا» (33)
فالتاع الحجاج على قسوته وصاح به: اما انكما لن تجتمعا في دار (34).
وأحاط به اعداء اللّه من كل جانب، وسيوفهم تقطر من دمه الزكي يقول بعض المؤرخين إنه لم يضرب أحد في الاسلام كما ضرب الحسين فقد وجد به مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم (35).
ومكث الامام مدة من الوقت على وجه الأرض، وقد هابه الجميع ونكصوا من الاجهاز عليه يقول السيد حيدر:
فما اجلت الحرب عن مثله
صريعا يجبن شجعانها
وكانت هيبته تأخذ بمجامع القلوب حتى قال بعض أعدائه: «لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في قتله» وما انتهى إليه رجل الا انصرف كراهية أن يتولى قتله (36).
خروج العقيلة:
وخرجت حفيدة الرسول (ص) زينب من خبائها وهي فزعة تندب شقيقها وبقية أهلها وتقول بذوب روحها:
«ليت السماء وقعت على الأرض»
وأقبل ابن سعد فصاحت به: يا عمر أرضيت أن يقتل ابو عبد اللّه وأنت تنظر إليه؟ فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشومة (37) ولم تعد العقيلة تقوى على النظر الى أخيها وهو بتلك الحالة التي تميد بالصبر، فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال.
الفاجعة الكبرى:
ومكث الامام طويلا من النهار، وقد أجهدته الجروح واعياه نزيف الدماء، فصاح بالقتلة المجرمين:
«أعلى قتلي تجتمعون؟ اما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه وأيم اللّه إني لأرجو ان يكرمني اللّه بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون..».
وكان الشقي الأثيم سنان بن أنس قد شهر سيفه فلم يدع أحدا يدنو من الامام مخافة أن يغلبه على أخذ رأسه فيخسر الجائزة من سيده ابن مرجانة، والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال له:
«انزل فجئني برأسه»
فانكر عليه شبث وقال له:
«انا بايعته ثم غدرت به، ثم انزل فاحتز رأسه لا واللّه لا أفعل ذلك..».
والتاع ابن سعد فراح يهدده:
«اذا اكتب الى ابن زياد»
«اكتب له» (38)
وصاح شمر بالأوغاد المجرمين من أصحابه: ويحكم ما ذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم امهاتكم فاندفع خولى بن يزيد الى الاجهاز عليه الا انه ضعف وأرعد فقد اخذته هيبة الامام فأنكر عليه الرجس سنان بن أنس وصاح به: فتّ اللّه في عضدك وأبان يدك، واشتد كالكلب على الامام فاحتز رأسه الشريف فيما يقول بعض المؤرخين (39)، وسنذكر الأقوال في ذلك.
واحتز رأس الامام (ع) وكانت على شفتيه ابتسامة الرضا والاطمئنان والنصر الذي احرزه الى الأبد.
لقد قدم الامام روحه ثمنا للقرآن الكريم، وثمنا لكل ما تسمو به الانسانية من شرف وعز واباء.. وقد كان الثمن الذي بذله غاليا وعظيما فقد قتل مظلوما مهضوما غريبا بعد أن رزىء بابنائه وأهل بيته وأصحابه وذبح هو عطشانا أمام عائلته، فأي ثمن اغلى من هذا الثمن الذي قدمه الامام قربانا خالصا لوجه اللّه؟
لقد تاجر الامام مع اللّه بما قدمه من عظيم التضحية والفداء، فكانت تجارته هي التجارة الرابحة قال اللّه تعالى:
(إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ واَلْإِنْجِيلِ واَلْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ) سورة التوبة: آية 110.
والشيء المحقق ان الامام قد ربح بتجارته وفاز بالفخر الذي لم يفز به أحد غيره، فليس في اسرة شهداء الحق من نال الشرف والمجد والخلود مثل ما ناله الامام فها هي الدنيا تعج بذكراه، وها هو حرمه المقدس أصبح اعز حرم وامنعه في الأرض.
لقد رفع الامام العظيم راية الاسلام عالية خفاقة وهي ملطخة بدمه ودماء الشهداء من أهل بيته وأصحابه: وهي تضيء في رحاب هذا الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم وأمم الأرض لحربتهم وكرامتهم.
لقد استشهد الامام من اجل أن يقيم في ربوع هذا الكون دولة الحق، وينقذ المجتمع من حكم الأمويين الذين كفروا بحقوق الانسان، وحولوا البلاد الى مزرعة لهم يصيبون منها حيث ما شاءوا.
اضف تعليق