وحيث ظن الأموي بأن قتلَ الهاشميَّ في كربلاء وهو يدور برأسه الشريف على رؤوس الأشهاد في المدن والبلاد، لكن الحسين قتلَ اليزيدَ بأن كان له في كل موضع حطوا عليه أو فيه رأس الشريف مشهدًا ومقاما تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل حدب وصوب، مصداقا لقول السيدة زينب...
تساؤل عريض يحط بكلكله على شفاه الناس.. ما بال جموع الملايين وهي تنحدر من كل وادٍ وفج عميق نحو العراق في كل عام من شهر صفر وهم ينشدون مدينة كربلاء المقدسة؟
معظم الناس يدركون أن العشرين من شهر صفر من سنة 61 للهجرة شهد عودة نساء أهل بيت النبوة ومعهم رؤوس الشهداء الذين استشهدوا في كربلاء يوم العاشر من محرم الحرام، جاؤوا إلى كربلاء ليجمعوا الرؤوس إلى جانب الأجساد، وكان قد صادفهم في زيارة قبر الإمام الحسين (ع) في اليوم نفسه شيخ أنصار الخزرج الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري.
إذن جاء بقايا أهل البيت إلى كربلاء ومعهم رؤوس الإمام الحسين (ع) وأولاده وأهل بيته وأنصاره، بعد أن طاف النظام الأموي بهم وبالرؤوس على المدن والقصبات من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام، جاؤوا لتسترد الأجساد بقايا الرؤوس التي احتزت ورفعت على رؤوس الرماح.
إذن ما بال أهل مصر المحروسة من أعلى البلاد إلى أقصى الصعيد ينحدرون نحو مقام رأس الحسين (ع) في القاهرة وهم على إيمان كامل بأنَّ باطن أرضهم تضم رأس سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام؟
هذا السؤال والكثير من أمثاله يجيب عليه الأديب العراقي سعيد بن هادي الصفار (1931- 2022م) في كتابه "مشاهد رأس الحسين" الصادر سنة 2020م عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 192 صفحة من القطع الوزيري قدّم له وعلَّق عليه الباحث العراقي المقيم في لندن الدكتور نضير الخزرجي، حيث تحرى في الكتاب مشاهد ومقامات رأس الحسين (ع) منذ أن احتز في عصر عاشوراء من سنة 61 والطواف به في البلدان وإلحاقه بالجسد الشريف، وحقيقة مقامات الرأس المتوزعة في العراق والشام ومصر وتركيا والحجاز.
ومن التوفيقات الإلهية في عالم النون والقلم أن الكتاب الذي خطه مؤلفه قبل عشرات السنين في دفتر مدرسي بقلم جاف أزرق كان في متناول يدي، فقدمت له وعلقت عليه ووضعت له الهوامش بما يعجم المبهم ويرفع اللبس عن المسميات والمدن وتوثيق المصادر والمراجع، فخرج من سنابك المطابع على صهيل سنابك الخيل وهي ترض صدر الحسين وقد حال القوم بين الجسد والرأس، مع سؤال عال الصوت: أين مثوى الرأس المطهّر؟
كتبت في التقديم: ومازالت الأفواه حتى يومنا هذا تستذكر يوم كربلاء وما حلَّ بالإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره، حيث لم يأت مثله يوم ولن يأتي، وكما قال الإمام السجاد (ع): (لا يوم كيوم الحسين، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا).
وحيث ظن الأموي بأن قتلَ الهاشميَّ في كربلاء وهو يدور برأسه الشريف على رؤوس الأشهاد في المدن والبلاد، لكن الحسين قتلَ اليزيدَ بأن كان له في كل موضع حطوا عليه أو فيه رأس الشريف مشهدًا ومقاما تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل حدب وصوب، مصداقا لقول السيدة زينب الكبرى (ع) وهي تحدث ابن أخيها السجاد (ع): (ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء (ع) لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوا).
فلا غرو أن نجد لرأس الحسين (ع) مقاما ومشهدا في سوريا والعراق وفلسطين ومصر والحجاز وفي أكثر من مدينة وموضع، وكل أهل مدينة يرون الحظوة الكبرى والمفخرة العظمى في احتضان الرأس الشريف، وإن دلّت أجلى الروايات أنّ الرأس الشريف تم إرجاعه إلى كربلاء المقدسة وأُلحق بالجسد الشريف.
وزّع الصفار صفحات المشاهد على عناوين فرعية، وكل عنوان دال على مراده، ومن العناوين يستطيع القارئ أن يدرك مواضع رأس الحسين في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وكلما واجهه اسم بلد ازدادت تقاسيم دهشته وتوسعت حلقة تساؤله: أين هو موضع الرأس الشريف؟
وحيث تكثر الإجابة فإن الشاعر العراقي الأنباري المولد المتوفى سنة 557هـ أبو بكر عطاف الآلوسي يلخص الجواب ببيتين من بحر مجزوء الكامل:
لا تطلبوا المولى الحسين... بأرض شرق أو بغرب
ودعوا الجميع وعرِّجوا... نحوي فمشهد بقلبي
وجاءت العناوين على النحو التالي: الحسين ورهطه، مولده، عمره الشريف، أولاده، الشهداء من أقاربه، يزيد وبطانته، ولادته وشكله، مهنته، حكمه ومشاريعه، وفاته، أعوانه، شبهة نَسَبيَّة، عبرة التاريخ، رأس تتهاداه العواصم، أين دفن الرأس؟، مدافن القلوب، الأمر الراهن، في كل بلد ضريح وفي كل قلب مقام، جريرة كربلاء، في حقل القاهرة، ذكرى الحسين في مصر، موكب الأسرى، في طريق الشام، القربان، شأن أهل البيت، تكريت، لينا، جهينة، معرة النعمان، كفر طاب، حمص، بعلبك، قافلة الرؤوس، المشاهد، المشهد، أقدار ومشاهد، مداخل العالم الإسلامي، المدينة (الحجاز)، الإعتداء الوهابي، الرقة (بلاد الشام)، دمشق (بلاد الشام)، كيفية بنائه، السلطان عبد العزيز ومشهد الحسين، أمين السلطان وتجديد المشهد، عسقلان (فلسطين)، حلول الرأس الكريم بعسقلان، زيارة السائح الهروي لعسقلان، زيارة إبن بطوطة لعسقلان، القاهرة (مصر)، القاهرة.. الإستقبال العسكري، الإستقبال الشعبي، مشهد الحسين، المسجد الحسيني، المشهد في عهد الأيوبي، إفادة أمين الآثار النبوية، إبن جبير في المشهد الحسيني، وصف المسجد الحسيني (القاهرة)، الباب الأخضر، أركان المسجد، أبواب المسجد، محل الرأس الشريف، صندوق المسجد، قبة المسجد الحسيني، تابوب المشهد الحسيني، المواسم الحسينية في القاهرة، الملك الصالح طلائع بن رزِّيك، الملك الصالح فارس المسلمين، كربلاء (العراق)، يا عائدون برأس سبط محمد، وصف المرقد الحسيني (كربلاء)، تاريخ المرقد الحسيني، إبن بطوطة في كربلاء، عنوان قائم.. كربلاء، مقامات رأس الحسين، جامع رأس الحسين، مسجد الرأس، مسجد الحنانة، مشهد النقطة.. غرب حلب، مسجد رأس الحسين.. حماه، مشهد الحسين.. المحلة، مواضع أخرى: العراق ومصر وسوريا وتركيا، صفين وكربلاء.. نظماً، الرأس الشريف.. نظماً، النتيجة الجوهرية، والحسين الخالد.
ويخلص المؤلف إلى القول: (فأياً كان الموضع الذي دفن به ذلك الرأس الشريف فهو في كل موضع أهلٌ للتعظيم والتشريف، وإنما أصبح الحسين – بكرامة الشهادة كرامة البطولة وكرامة الأسرة النبوية – معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره، وإن هذا المعنى لفي القاهرة وفي عسقلان وفي دمشق وفي الرقة وفي كربلاء وفي المدينة وفي غير تلك الأماكن سواء. فإن لم تكن هي الأماكن التي دفن بها الرأس الحسين (ع) فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء).
ولأن الحسين بن علي (ع) سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، ومحبوب حبيب الله، فحيثما مالت بوصلة القلب فثمَّ الرأس الشريف.
اضف تعليق