ما نلمسه من هذه الزيارة العظيمة عندما تتحول الى مدرسة للتعلّم والتعليم، فلم تعد زيارة الاربعين مصدر للعطاء، بل باتت تأخذ من هذا وتعطي لذاك كل ما تحمله هذه المدرسة من قيم ومبادئ بشكل يواكب تطور الحياة والانسان على طول الزمن، والى يوم القيامة...
الإمام الحسين، عليه السلام، ونهضته الإصلاحية كمفهوم، ثم ملحمته البطولية على الأرض كتطبيق عملي مضمّخ بالدماء والتضحيات والآلام، كلها تمثل مدرسة للإنسانية جمعاء بإقرار جميع من زار المرقد الشريف، أو قرأ عن الواقعة والقضية من المسلمين وغير المسلمين، فراحوا يقتبسون منها ما يضيء لهم في حياتهم، ويحقق لهم السعادة والكرامة والتقدم.
بيد أن الملاحظ من هؤلاء التلاميذ المجدّين قد تحولوا هم بأنفسهم الى مدرسة للآخرين يعبرون فيها عن تجاربهم مع الحقائق التي كانت في اذهانهم بأشكال وصور اخرى، مما يساعد المسلمين وأتباع مدرسة أهل البيت تحديداً (الشيعة) لتكريس إيمانهم أكثر بهذه النهضة المدوية عبر التاريخ.
وربما أجد هذه من معاجز هذه النهضة، او هي كرامة إلهية ممتدة مع الزمن للإنسانية تبقي الفكرة فاعلة ومتجددة، والتضحيات طريّة وساخنة لا تبرد في القلوب والنفوس، بل أجد أننا أمام مصداق عملي وملموس لحديث رسول الله في حق سبطه الشهيد: "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً".
يتأثرون ويؤثرون
ليست القضية مرتبطة باليوم بقدر ما هي ومضات تندلع من مشاعر وأذهان زائرين مسلمين وغير مسلمين يأتون من القارات الخمس إزاء ما جرى في كربلاء سنة 61 للهجرة خلال السنوات الماضية، ومع مضي السنين، والانفتاح الحاصل بين الثقافات في العالم، كانت للنهضة الحسينية النصيب الأوفر في البحث والدراسة عن الدوافع والاهداف والنتائج، فتوصل هؤلاء الزائرون الى ما توصل اليه أسلافهم من المثقفين والمفكرين في العالم من استنتاجات عن النهضة الحسينية.
وفي المؤتمر الدولي المنعقد مؤخراً في كربلاء المقدسة برعاية العتبة الحسينية تحت عنوان: "مؤتمر نداء الأقصى"، تحدث زائرون من مختلف بقاع العالم عن تجربتهم المعرفية والشعورية وهم يشاركون الحشود المليونية زيارة الأربعين، وكل واحد منهم يحاول أن يجد لواقعه الاجتماعي والسياسي مكاناً للنهضة الحسينية، فقد تحدث مفتي روسيا بأن "كل من يأتي الى كربلاء يتزود بالشجاعة والحكمة والتضحية التي قدمها الامام الحسين"، فيما تحدث والد الشهيد محمد الدرّة من فلسطين عن واقع الاحتلال الصهيوني بأن الامام الحسين يمثل "النضال والتضحية من أجل رفع الظلم والمظالم عن الامة وعن الشعوب"، بينما تحدث حفيد نيلسون مانديلا، القادم من جنوب افريقيا، حيث تجربة التمييز العنصري، بان الامام الحسين "مصدر إلهام للملايين حول العالم وليس للمسلمين فقط".
قبل هؤلاء كان رجال دين مسيحيين قد شاركوا الزائرين سيرهم على الاقدام في الطريق بين النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، ثم عقدوا ندوات في بلدانهم بعد تجميع عيّنات من حالات أخلاقية وإيمانية وجدوها في سلوك الزائرين، وايضاً في سلوك وتعامل العاملين في المواكب الخدمية على طول الطريق، لاسيما الاطفال منهم، فوجدوا أن الدوافع ليست وراثية، ولا سلطوية بأوامر الآباء والكبار، بقدر ما هي نفحات إيمانية في القلوب، وتربية للبذرة الطيبة في النفوس على حب الحق والعدل وكل القيم والمفاهيم الايجابية، في نفس الوقت التنبيه على نبذ الباطل والظلم وكل ما يتصل بالرذيلة ويتقاطع مع العقل والفطرة الانسانية.
ومن الصور الذهنية المُعدلة عن هذه الزيارة، أنها تمثل الطبقة الاجتماعية الفقيرة، كما تمثل –على الاغلب- الشريحة غير المتعلمة، فهؤلاء لديهم الكثير من الوقت يقضونه في السير على الاقدام، بينما صاحب المتجر او المشروع الاقتصادي، وايضاً العالم والاكاديمي المشغول في البحث والتعليم لايجد هكذا فرصة، فضلاً عن الانطباع بان هؤلاء الزائرين إنما يبثون شكواهم وهمومهم الى الامام الحسين لحل مشاكلهم المستعصية في المجالات كافة بعد انقطاع السبل بهم، لاسيما في ظل أنظمة حكم فاشلة وقمعية لم تقدم لهم سوى الظلم والتمييز وخلق الأزمات الخانقة.
ولكن؛ مع مرور الزمن تلاشت كل هذه الصور الذهنية المتشكلة بسبب اجتهادات، او تحليلات، او حتى نقل غير أمين للمعلومة الى من هم في أقاصي الأرض، فانبلجت شمس الحقيقة في طريق المشي الى كربلاء، واتضح للجميع في العالم أن الذي يسير على قدميه؛ العالم الى جانب المتعلّم البسيط، او حتى غير المتعلم، كما يسير الغني الى جانب الفقير، الى جانب التنوع الانساني في اللون والعرق والقومية واللغة، لتشكل مشهداً أشبه ما يكون بمشهد الطواف ببيت الله الحرام في مكة المكرمة.
إن وجود رجل دين مسيحي بملابسه الخاصة والمميزة بين الزائرين، وهو يصافح الرجال والاطفال ويبتسم الى الجميع، وأيضاً زائرين من القارة الافريقية، ومن الهند وباكستان، او بلاد الشرق الأقصى (الصين واندونيسيا وماليزيا)، يبعث في نفوس جميع من في الطريق على ثقة عالية بالنفس، كما تعمّق لديهم الايمان أكثر بما قام به الامام الحسين، عليه السلام، وهذا يصدق ايضاً على النسوة اللاتي شاركن في هذه المناسبة هذا العام وفي الاعوام الماضية، وكيف كان شعور النساء العراقيات تحديداً وهنّ يَرَين صحفية اجنبية او امرأة مستبصرة من بلاد الغرب او الشرق تشاركهم المسير الى كربلاء؟
انه شعور ايجابي عارم يجعل صاحبه ينسى همومه ومشاكله الراهنة مهما كانت، بل يدفعه شعوره هذا الى السعي لخدمة هذا الزائر القادم من بعيد الى مرقد الامام الحسين، عليه السلام، ليكون مشاركاً في إجلاء تلك الحقيقة الغائبة عن ذهنه، فهو لا ينوي إظهار كرمه وأخلاقه الحسنة لمن جاء من خارج الحدود سعياً لكسب الودّ وتسجيل موقف معين او تكريم او الحصول على الرقم القياسي في موسوعية "غينس" العالمية، فهذا بعيد عن أذهان المواكب الخدمية بالمرة، إنما هم ينظرون الى ما بلغته رؤية هؤلاء الزائرين من حقائق ودروس للحياة والانسان، فالمشاكل التي يعاني منها الانسان بين وبين نفسه، او بينه وبين افراد المجتمع، ثم بين المجتمع والدولة الحاكمة وأشكال الظلم والطغيان، إنما يمكن حلّها ببساطة من خلال المدرسة الحسينية، بشرط الإيمان والاستقامة على الطريق بعزيمة لا تلين.
وهذا ما نلمسه من هذه الزيارة العظيمة عندما تتحول الى مدرسة للتعلّم والتعليم، فلم تعد زيارة الاربعين مصدر للعطاء، بل باتت تأخذ من هذا وتعطي لذاك كل ما تحمله هذه المدرسة من قيم ومبادئ بشكل يواكب تطور الحياة والانسان على طول الزمن، والى يوم القيامة.
اضف تعليق