q
كان يطلب ما كان يطلبه أبوه الإمام علي (ع) من ذي قبل: اصلاح البلاد اجتماعيًا وأمنيًا ونظاميًا.. ليأمن المظلومين والمشرّدين والمطاردين في كل مكان، وتحفظ النفوس وتصان الأعراض والأموال وترد الحقـوق إلى أهلها الأصليين، وتطبـّق الأحكام والقوانين على أكمل وجه دون نقصٍ أو تحريفٍ أو تزويرٍ...

لقد مرّت على الإمام الحسين (ع) حوادث مؤلمة وكوارث مفجعة، منها استشهاد أمه السيدة فاطمة الزهراء ثم استشهاد أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم استشهاد أخيه الحسن المجتبى (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ورأى الكثير والكثير من ألاعيب بني أمية ومكرهم وخداعهم ومحاولة إبادة شيعة أهل البيت (ع)، وتصفية زعمائهم وساداتهم، بالإضافة إلى ذلك كانوا يفتتحون صلاتهم بسب أمير المؤمنين علي (ع) ولعنه ويختتمونها بذلك وخاصة في صلاة الجمعة، ثم منعهم الأرزاق والعطايا عن شيعة أهل البيت (ع) وتم مطاردتهم في كل فج عميق، وفي كل منطقة حدودية تابعة إليهم، والقضاء عليهم وترهيبهم وتخويفهم أو إجبارهم لمحاولة تركهم وتخليهم عن مذهب أهل البيت (ع).

كما حصل لحجر بن عدي الكندي وأصحابه الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، حيث تم قتلهم وتصفيتهم ظلمًا وعدوانًا، من بعد ما أعطي لهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، جرأةً على الله واستخفافًا بعهده، وكذلك شريك الحضرمي، ومالك الأشتر النخعي، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وغيرهم الكثير منهم، تم قـتلهم وتصفيتهم جميعهم ببساطة وبدم بارد، لأنهم كانوا على دين الإمام علي بن أبي طالب وهو دين ابن عمه رسول الله (ص).

أعلن الإمام الحسين (ع) عن منهجه الإصلاحه وأهدافه وتطلعاته المستقبلية بكل شفافية، داعيًا إلى تحقيق سيادة القانون وتطبيق القيم والمبادئ الإنسانية السمحاء (العدالة – الحرية - الرحمة الإنسانية - الإصلاح - مكافحة الفساد...) كمـا صرح هو بذلك من خلال كلمته الشهيرة وخطبته المعروفة: (ألا وإني لم أخرج اشرًا، ولا بطرًا، ولا ظالمًـا، ولا مفـسدًا، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المـنكر، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين).

إذن.. من خلال فهمـنا واستيعابنا ما يريده ويسعى إليه من أجله، إقامة الحكم العادل ومكافحة الفساد، ومحاربة الظلم المنتشر في البلاد.. فهو كان يطلب ما كان يطلبه أبوه الإمام علي (ع) من ذي قبل: "اصلاح البلاد اجتماعيًا وأمنيًا ونظاميًا.. ليأمن المظلومين والمشرّدين والمطاردين في كل مكان، وتحفظ النفوس وتصان الأعراض والأموال وترد الحقـوق إلى أهلها الأصليين، وتطبـّق الأحكام والقوانين على أكمل وجه دون نقصٍ أو تحريفٍ أو تزويرٍ". فالمجتمعات العربية والإسلامية -خـاصةً- تلـك الفترة التي كان يعيش فيها الإمام الحسين (ع)، تعاني من عـدة أمور خطيرة جدًا وهــي: أولا – الناحية الاجتماعية: الفساد، الرشوة، التزوير، الظـلم، القهر، الإنتقام، وعدم تكافؤ الفرص، القبلية الجاهلية، الطبقية العنصرية، ونحو ذلك..

ثانيًا – الناحية الأمنية: كانت الحدود معطلة، والأحكام لا تعمل في البلاد، فـلم يكـن المجرم يحاسب ويعاقب على جريمته، ولا الظالم على ظلمه، ولا السارق على سرقته، ونحو ذلك..

ثالثًا – الناحية الاقتصادية: كانت هناك قـلة أو جماعة من الأوباش الأغنياء المتحكمين والمسيطرين قد ماتت ضمائرهم وخبثت سرائرهم، تتحكم بمصير الناس وتحتكر أرزاقهم، وتتلاعب بمقدراتهم المعيشية والحياتية..

رابعًا – الناحية الأخلاقية: كانت القيم والمبادئ السائدة آنذاك هي ظلم الضعفاء وإذلالهم والإستهزاء على الفقراء والمحرومين، ونهب الأموال وسرقتها وسلب الأراضي والممتلكات من أهلها، والكذب على الله ورسوله، وإنتشار الخيانة والفجور والزنا، وشرب الخمور، ونحو ذلك..

ولصمت الكثيرين الذين كان عليهم الكلام والإنتقاد والإعتراض على هذه المواقف والأوضاع السيئة والمتردّية، ولضعف روح الجهاد والتضحية وتحمّل المسؤولية تجاه الأمة وابتعادهم عـن المبادئ السامية والأخلاق المحمدية، نهض الإمام الحسين (ع) وأصحابه المخلصين للتغيير والإصلاح والجهاد والكفاح... وأن يعيدوا من خلال حركتهم الإصلاحية (قيم الإسلام المحمدي الأصيل) وهي بالطبع الأهداف الإسلامية الحقيقية وليست المزيّفة ومـن ضمنها.. صنع أمة إسلامية وقاعدة جماهيرية شعبية مناضلة، بناء مجتمع إسلامي خالص، تخليص الحضارة الإسلامية مـن الإنحراف والتبعية العمياء والجاهلية البغيضة والحاقدة وإنقاذها من السقوط والإنهيار والإنقسام والتشتت والتمزق.

لقد اختار الإمام الحسين (ع) طريقـًا ومنهجًا واضحًا وسليمًا لا عوج فيه، وهو القرار المصيري الذي اتخذه دون رجعة ومغادرته مع أهل بيته وأصحابه من مكة المكرمة إلى بلاد الرافدين، وأعلن أولا - البراءة من المشركين والمنافقين، وثانيًا – الحرب على المفـسدين والمستبدين، وثالـثًا – التعبئة الروحية ونشر الوعي الجماهيري وإنهاض الأمة من جمودها وسباتها الطويل.

وما لبثت القبائل والعشائر العربية والإسلامية، أن تعاطفت مع موقف الإمام الحسين (ع) فانهالت عشرات ومئات ثم آلاف الرسائل والبرقيات من مختلف المدن والقرى والحواضر الأخرى و في طليعتها مدينة الكوفة معقل المعارضة آنذاك، وكان الكوفيون يلحون دائمـًا في قدوم الإمـام (ع) وانقاذهم من نير الحكم الأموي الغاشم. ولقد أرسل الإمام الحسين (ع) ابن عمه مسلم بن عقيل سفـيرًا إليهم للوقوف على حقيقة الأوضاع، حيث وجد السفـير أن مدينة الكوفة تغلي بالثورة والإنتفاضة والمقـاومة.

ولكن سرعان ما تغيرت الأوضاع بسرعة، واتخذت من قبل الحاكمين تدابير سريعة وعاجلة، وسجل الكوفيون مرة أخرى تخاذلهم وخذلانهم للحق، وأصبـحوا الذين كانوا يطالبون بحضور الإمام (ع) أنصارًا وجنودًا في جيش أموي جرار هدفه ارغام الإمام الحسين (ع) على البيعة والطاعة لحكم بني أمية.. وحدث ما كان متوقعـًا.. إذ حاصرت الجيوش الأموية قافلة الإمام الحسين (ع)، وقطعت عليها طريق إلى الكوفة أو العودة إلى المدينة المنورة.

وكـان أمـام الحسين (ع) طريقـان لا ثالـث لهمـا.. أن يقـاتل ويدافع أو يستسلم في هذه الحالة ويعلن الاستسلام والخضوع لهم، ولكنّه لم يتردد الإمام الحسين (ع) في المواجهة والمقـاومـة والدفاع حتى لآخر نفس من حياته، فأعلنها كلمة مدوّية "هيهات منّا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون".

وهكذا سطّر الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه أروع ملاحم المقاومة والإنتفاضة والثورة ضد الظلم والفساد، إلى أن هووا جميعـًا ظامئين مضرّجين بدمائهم الزاكية على شطآن الفرات، وكانت رايتهم هي المنتصرة رغم انكسارها الظاهري في الميدان، أحدثت هزة عنيفة في الضمير الإنساني، فتحطّم طوق الخوف والرعب المدفون في قلوب الناس لفترات طويلة ولسنوات عديدة، ولقد أعادت للإسلام هويته الحقيقية التي حاول الطغاة المستبدون والفاسدون طمسها للأبد.

فأصبحت الكوفة بعد ذلك بفـترة قصيرة مركزًا للإنتفاضة والثورة والمقـاومة طوال تاريخها ففي سنة 65 هجرية، انفجرت حركة التوابين ثم حركة المختار الثقفي، وإذا ما سمعنا عن كل الحركات والإنتفاضات الكبرى في التاريخ، فإن منشأها الكوفة وذلك ببركة الدماء الزكية الطاهرة والملحمة البطولية الخالدة التي سطّرها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه المخلصين.

وختامًا وفي نهاية المطاف.. فإن أيّ (منهج إصلاحي تغييري) لابد من أهداف مرسومة ومخططة ومنظمة بشكل دقيق، من خلال تحمّل المسؤولية وإتباع القيادة الربانية والروحية المخلصة، وتعيين استراتيجية واضحة المعالم، ومبنية على قيم ومبادئ أساسية، وبذلك ستنتصر الأمة على أعدائها، وتتغلب على مشاكلها، وتتخطى أزماتها، وتتحقق أهدافها بإذن الله تعالى.

اضف تعليق