q
أما الإصلاح وفقا للمنهج الحسيني ومبادئه العادلة، وأما التمسك بالبديل وهو مواصلة فضح كل من يبتعد عمّا أعلنه وأراده سيد الشهداء، والمعني بذلك استثمار الفكري الحسيني في إصلاح شؤون العراقيين والمسلمين جميعا، خصوصا في قضية تنظيم العلاقة بين السلطة والأمة، وهي علاقة تكاد تكون شائكة ومعقدة بين الطرفين...

الميعاد السنوي لزيارة الأربعين في اليوم العشرين من صفر، وذلك بعد مرور 40 يوما على مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، في معركة كربلاء على يد جيش عبيد الله بن زياد، وبحسب بعض الروايات فقد قامت زينب بنت علي، وعلي بن الحسين (السجاد) عليهما السلام، برفقة أيتام وأطفال الحسين بالذهاب إلى أرض كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) بعد مرور أربعين يوما على استشهاده.

وتعد هذه المناسبة، من أهم المناسبات عند الشيعة (وهو المذهب الذي يشمل أتباع أهل البيت عليهم السلام والملتزمين بمبادئ الفكر الحسيني والمنادين به)، حيث تخرج مواكب العزاء في مثل هذا اليوم، لتعلن ولاءها لمنهج الإمام الحسين (ع) وأئمة أهل البيت، وتستثمر هذه الألوف المؤلفة زيارة الأربعين في السياسة والاجتماع والتربية الفكرية.

فتعلن مواكب العزاء عبر (الردّات) والقصائد الحسينية التي يكتبها شعراء مختصون ومعروفون، منها ما ينتقد الدولة وحكام المسلمين على أي أداء خاطئ، مع حرص الشعراء على تقديم الحلول والنصح للقادة السياسيين وتحذيرهم من مغبة الابتعاد عن الفكر الحسيني، فتغدو أصوات هذه المواكب ذات رهبة خاصة ترهب قلوب ونفوس الحكام الظالمين.

ومما تتميز به مناسبة زيارة الأربعين، استعداد مدينة كربلاء المقدسة لاستقبال ملايين الزوار الكرام من خارج وداخل البلاد، مع تهيئة جميع متطلبات الطعام والمنام والراحة طوال وجودهم ضيوفا على أبي عبد الله الحسين (ع)، فيتوافد مئات الآلاف من الشيعة من كافة أنحاء العالم إلى أرض كربلاء لزيارة قبر الحسين، وتصل أعداد الزائرين الى أرقام مذهلة، حين يقوم الملايين من الزوار بالحضور إلى كربلاء مشياً على الأقدام بأطفالهم وشيوخهم من مدن العراق البعيدة حاملين الرايات تعبيراً عن النُصرة، والالتزام بمنهج الحسين (ع).

ويقطع كثير من الزائرين الكرام مسافات طويلة تزيد على 500 كيلومتر مشياً، ويقوم أهالي المدن والقرى المحاذية لطريق الزائرين بنصب سرادقات وهي عبارة عن (خيام كبيرة)، أو يفتحون بيوتهم لاستراحة الزوّار وإطعامهم معتبرين ذلك تقرباً إلى الله تعالى، وتبركاً بالفكر الحسيني، وقد ورد عن بعض أئمة الشيعة قوله أن علامات المؤمن خمسة: التختم باليمين، وتعفير الجبين، وصلوات إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم، وتقول الروايات أن أول من زار الحسين في يوم الأربعين، كان الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، إذ صادف وصوله من المدينة المنورة إلى كربلاء المقدسة في ذلك اليوم، وهو يوم وصول ركب حرم الحسين (نسائه وأيتامه)، برفقة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (السجاد) وعمته زينب، فالتقوا هناك ونصبوا مناحة عظيمة حتى أصبح إحياء ذكراها من السنن المستحبة والمؤكدة عند أتباع أهل البيت.

وتسمى هذه الذكرى محلياً في العراق بزيارة مردّ الرؤوس (أي رجوع أو عودة الرؤوس)، لأن رؤوس الحسين وبعض من قُتل معه من أصحابه وأهل بيته أُعيدت لدفنها مع الأجساد بعد أن أخذها جيش بني أمية إلى يزيد وطافوا بها تباهياً بالنصر على سبط الرسول الأكرم، وأطفاله ونسائه الذين يمثلون ذرية وامتداد النبي محمد (ص).

بعد التعريف بهذه الزيارة وتفاصيلها، نأتي الآن الى محصلة منهجها، ومن أين يتم تدبيج هذا المنهج، وهل هو يمثل إرادة الحسين (ع)، ومنهجه الإصلاحي الذي خرج من أجل نشره وتثبيته في أمة الإسلام، وإعادة السفينة الإسلامية الى مسارها السليم بعد أن انحرفت وشطّت وذهبت في سبل الضلال والانحراف والأنانية، حيث بات قائد المسلمين باحثا عن اللذة طائشا، أعجبته نفسه، وهرع الى كنوز الثروات والخراجات، واستماله حطام الدنيا، فعاقر الخمر ولاعب القرود، وبحث عن الملذات، يصاحب ذلك ظلم طال فقراء الأمة وإهمال ما بعده إهمال.

ولم يكن هناك سبيل الى كف المواجهة مع يزيد المتهور وإعلان الثورة، إلا القبول بما يريده ويخطط له هذا المنحرف، فانطلق صوت الإصلاح الحسيني الهادر، ولم يتوقف هذا الصوت الى عصرنا هذا، وهو أقوى صوت إصلاحي مناهض للظلم عبر التاريخ، ولطالما أرعب الطغاة وهزّ عروشهم وأسقطهم، فيما يتمسك المسلمون بجموعهم الهادرة بهذا المنهج العملاق، منذ مئات السنين التي تتعاقب خلف بعضها، مضيفة أرقاما جديدة في كل يوما للمؤمنين بالمنهج الإصلاحي الحسيني.

صوت الحسين (ع) يحمل منهجه الداعي الى (العدل، الاحترام، النزاهة، المساواة، التسامح، رفض التطرف والتعصب، العلم، العمل، الانتصار للفقراء)، إنها مبادئ المنهج الحسيني، وفكره الإصلاحي الذي ينبغي أن يُستثمَر بأفضل الطرق والسبل من القادة والنخب والأتباع، فكل من يقول بأنه ينتمي الى الإمام الحسين (ع)، فكرا وروحا ومنهجا وقلبا وقالبا، مطلوب منه وإنما مفروض عليه أن يتمسك بالفكر الحسيني ومبادئه ويطبقها في حياته، ولا يتردد في ذلك قيد أنملة.

أما المشكلة الأشد وقعا وضررا في واقع العراقيين والمسلمين، فهي تحويل الفكر الحسيني ومبادئه الى غطاء لتمرير مآرب وأهداف وغايات بعض القادة والعاملين في السياسة، علما أن هؤلاء لا علاقة لهم بالمنهج الحسيني إلا بقدر ما يحقق لهم أهدافهم، وهي المال والسلطة والجاه، حتى لو تم ذلك على حساب حقوق ومصالح عامة الناس.

إن مشاكل العراقيين كثيرة ومثلها مشكلات المسلمين، وهي تتلخص بعدم قيام الحكام وحكوماتهم بواجباتهم وفقا للعدل والحق، فواقع العراقيين والمسلمين، يدل الى عدم التزام هؤلاء بما يعلنونه من أنهم ملتزمون بالمنهج الإصلاحي الحسيني، حتى باتت المواجهة مع هؤلاء الحكام والمسؤولين أمرا لا تراجع عنه.

فأما الإصلاح وفقا للمنهج الحسيني ومبادئه العادلة، وأما التمسك بالبديل وهو مواصلة فضح كل من يبتعد عمّا أعلنه وأراده سيد الشهداء، والمعني بذلك استثمار الفكري الحسيني في إصلاح شؤون العراقيين والمسلمين جميعا، خصوصا في قضية تنظيم العلاقة بين السلطة والأمة، وهي علاقة تكاد تكون شائكة ومعقدة بين الطرفين.

إن هذه الزيارة الجماهيرية الكبرى، تعد فرصة نادرة ومناسبة لكي يقرر المسلمون ماذا يفعلون من أجل إصلاح أمورهم كلها، ويجب أن يبقى الهدف من استثمار زيارة الأربعين قائما، خصوصا من الناحية الفكرية التنظيمية، فيفترَض أن يتم رفد المواكب الحسينية بالأفكار الإصلاحية كما دعا الحسين (ع) الى ذلك، ويجب أن تُقام فعاليات ثقافية فكرية فنية تشرف عليها منظمات وشخصيات مؤهلة لهذا الدور، فانتهاز هذا التجمع السنوي المليوني أمر في غاية الأهمية.

مع التركيز المنظّم على استثمار وجود ملايين الشباب في هذه الزيارة، وزرع ركائز المنهج الحسيني في قلوبهم ونفوسهم وأذهانهم، فهؤلاء الشباب، هم قادة الغد، وينبغي أن يتم إعداد الشباب القادة منذ الآن، وينبغي أن يتعلموا ويعرفوا ويتقنوا، مبادئ المنهج الحسيني، وليس هنالك مناسبة أفضل من زيارة الأربعين، كي يتم استثمارها بأفضل صورة ممكنة، لبناء قادة المستقبل، على أن يستمدوا فكرهم وإراداتهم وتصميمهم من الفكر الحسيني الإصلاحي، ويتم تطبيق هذا الفكر بالحرف الواحد على واقع العراقيين والمسلمين.

هذا هو الأمل الذي ينظر إليه العراقيون والمسلمون في زيارة الأربعين، هذه المناسبة التي تحمل معها أمل الإصلاح وتحسين واقع الفقراء، من خلال انتهاز هذه المناسبة واستثمارها أفضل الاستثمار لتوعية الناس وخصوصا النخب والقادة في السياسة والثقافة والعلم والدين والصحة والاقتصاد، على أن يتم هذا الاستثمار وفقا للمنهج الحسيني وفكره المتوقد في جميع الأزمنة.

اضف تعليق