وأجمع المؤرخون ان علي بن الحسين الأكبر كان يضارع جده الرسول في خلقه وأخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين، وأعظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم فقد ملك جميع الطاقات الانسانية والمثل الكريمة التي يسمو بها العظماء والمصلحون. من معاني أخلاقه الاباء والشمم وعزة النفس...
بقلم: الشيخ باقر شريف القرشي-مقتبس من كتاب حياة الامام الحسين، دراسة وتحليل
وأجمع المؤرخون ان علي بن الحسين الأكبر كان يضارع جده الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، في خلقه وأخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين، وأعظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم فقد ملك جميع الطاقات الانسانية والمثل الكريمة التي يسمو بها العظماء والمصلحون.
وكان البارز من معاني أخلاقه الاباء والشمم وعزة النفس والاندفاع الهائل في ميادين الكرامة الانسانية، فقد آثر الموت واستهان بالحياة في سبيل كرامته، ولا يخضع لحكم الدعي ابن الدعي، وقد بعث عمر بن سعد رجلا من أصحابه فناداه:
«ان لك قرابة بامير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ ونريد أن نرعى هذا الرحم، فان شئت آمناك؟»
فسخر منه علي بن الحسين وصاح به:
«لقرابة رسول اللّه احق ان ترعى» (1)
وكان من ابر ابناء الامام واكثرهم مواساة وحرصا عليه، وهو أول من اندفع بحماس بالغ من الهاشميين إلى الحرب، وكان عمره فيما يقول المؤرخون ثماني عشرة سنة (2)، فلما رآه الامام اخذ يطيل النظر إليه، وقد ذابت نفسه حزنا واشرف على الاحتضار، لأنه رأى ولده الذي لا ند له قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض:
«اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد (ص) خلقا وخلقا ومنطقا، وكنا إذا اشتقنا الى رؤية نبيك نظرنا إليه... اللهم امنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضي الولاة عنهم أبدا، فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا».
ويلمس في هذه الكلمات الحزينة مدى أساه على ولده الذي استوعب نفسه حبا له، وقد دعا اللّه ـ بحرارة ـ ان ينزل على تلك العصابة المجرمة عذابه الأليم في هذه الدنيا وتقطع قلب الامام حزنا على ولده فصاح بالمجرم الأثيم عمر بن سعد.
«ما لك قطع اللّه رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه (ص) ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْرٰاهِيمَ وآلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ واَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ..).
وشيع الامام ولده بدموع مشفوعة بالحزن والزفرات، وخلفه نساء أهل البيت وقد علا منهن الصراخ والعويل على شبيه رسول اللّه (ص) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح.
وانطلق الفتى إلى حومة الحرب مزهوا لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وهو يحمل هيبة الرسول (ص) وشجاعة امير المؤمنين وبأس حمزة واباء الحسين، وتوسط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز بعزة وتصميم محاميا عن دين اللّه.
أنا علي بن الحسين بن علي
نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (3)
أجل واللّه يا فخر هاشم أنت وأبوك أولى بالنبي واحق بمقامه، فأنتم أقرب الناس إليه والصقهم به ولكن الأطماع السياسية التي تغلبت على القوم هي التي دفعتكم عن مقامكم، وسلطت عليكم هذه الطغمة الجائرة فعمدت الى تقطيع أوصالكم واستئصال شأفتكم ليخلو لها الجو في التأمر على المسلمين بغير الحق.
واعلن علي بن الحسين في رجزه عن روعة بأسه وشدة إبائه، وانه يؤثر الموت على الخنوع للدعي ابن الدعي.. والتحم مع اعداء اللّه وقد ملأ قلوبهم رعبا وفزعا وابدى من البسالة ما يقصر عنه الوصف، فقد ذكّرهم ببطولات جده امير المؤمنين، وقد قتل فيما يقول بعض المؤرخين مائة وعشرين فارسا (4) سوى المجروحين وألح عليه العطش فقفل راجعا الى أبيه يشكو إليه ظمأه القاتل ويودعه الوداع الأخير، واستقبله أبوه بحرارة فبادره علي قائلا:
«يا أبة العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل الى شربة ماء من سبيل اتقوى بها على الأعداء؟»
والتاع الامام كأشد ما تكون اللوعة ألما ومحنة، فقال له بصوت خافت وعيناه تفيضان دموعا.
«وا غوثاه ما اسرع الملتقى بجدك، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدا».
وأخذ لسانه فمصه ليريه ظمأه فكان كشقه مبرد من شدة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (5).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من افجع ما رزىء به الامام الحسين لقد رأى فلذة كبده وهو في غضارة العمر وريعان الشباب، وقد استوعبت الجراحات جسمه الشريف وقد اشرف على الهلاك من شدة العطش وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي ظمأه، يقول الحجة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى
ظمأ الحشا الا إلى الظامي الصدي
كل حشاشته كصالية الغضا
ولسانه ظمأ كشقة مبرد
فانصاع يؤثره عليه بريقه
لو كان ثمة ريقه لم يجمد
وقفل علي بن الحسين راجعا الى حومة الحرب قد فتكت الجروح بجسمه وفتت العطش كبده، وهو لم يحفل بما هو فيه، وانما استوعبت فكره وحدة أبيه وتضافر اعداء اللّه على قتله، وجعل يرتجز:
الحرب قد بانت لها حقائق
وظهرت من بعدها مصادق
واللّه رب العرش لا نفارق
جموعكم أو تغمد البوارق (6)
لقد أعرب فخر هاشم بهذا الرجز بأن الحقائق قد ظهرت في هذه الحرب، وتجلت للجميع الأهداف النبيلة التي ينشدها أهل البيت، وانهم سيبقون يناضلون عنها حتى تغمد البوارق.
وجعل علي الأكبر يقاتل أشد القتال واعنفه حتى قتل تمام المائتين (7) وقد ضج العسكر فيما يقول المؤرخون من شدة الخسائر التي مني بها، فقال الوضر الخبيث مرة بن منقذ العبدى (8) علي آثام العرب إن لم اثكل أباه (9) وأسرع الخبيث إلى شبيه رسول اللّه (ص) فطعنه بالرمح في ظهره وضربه ضربة غادرة بالسيف على رأسه ففلق هامته، واعتق علي فرسه يظن انه يرجعه إلى أبيه ليتزود بالنظر إليه، إلا ان الفرس حمله الى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كل جانب ولم يكتفوا بقتله وانما راحوا يقطعونه بسيوفهم اربا اربا تشفيا منه لما الحقه بهم من الخسائر الفادحة، ونادى علي رافعا صوته:
«عليك مني السلام أبا عبد اللّه، هذا جدي رسول اللّه قد سقاني بكأسه شربة لا اظمأ بعدها، وهو يقول: إن لك كأسا مذخورة».
وحمل الأثير هذه الكلمات الى أبيه الثاكل الحزين فقطعت قلبه ومزقت احشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى منهد الركن فانكب عليه، ووضع خده على خده، وهو جثة هامدة قد قطعت شلوه السيوف في وحشية قاسية، فأخذ يذرف أحر دموعه وهو يقول بصوت خافت قد لفظ شظايا قلبه فيه:
«قتل اللّه قوما قتلوك، يا بني ما اجرأهم على اللّه، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا» (10).
وهرعت إليه الفتية من عمومته وأبناء عمومته فألقوا بنفوسهم عليه وهم يوسعونه تقبيلا ويلثمون جراحاته، ويقسمون على أن يمضوا على ما مضى عليه، وأمرهم الامام أن يحملوه إلى المخيم.
وهرعت الطاهرة البتول حفيدة النبي (ص) زينب (ع) فانكبت على جثمان ابن أخيها تضمخه بدموعها، وتندبه بأشجى ما تكون الندبة، وقد انهارت امام ابن أخيها الذي كان قبل ساعة يملأ العين اهابه، وأثر منظرها الحزين في نفس الامام فجعل يعزيها بمصابها الأليم، وهو يردد:
«على الدنيا بعدك العفا».
لقد كان علي بن الحسين الرائد والزعيم لكل ابي شريف مات عصيا على الضيم في دنيا الاباء والشرف
وداعا يا بطل الاسلام
وداعا يا فخر هاشم
وداعا يا فجر كل ليل
ونحن نودعك بالأسى والحزن ونردد مع أبيك كلماته الحزينة «على الدنيا بعدك العفا».
اضف تعليق