عندما نقرأ عن كل شهيد في يوم عاشوراء نجده مصدر للهداية ومثالاً يحتذى به، ان كل من وقف في معسكر الحسين عليه السلام كان يحمل قصة فريدة لوحدة وكان نبراساً وهادياً لصنف معين من البشر وقدوة لفئة او جنس او عرق او طائفة معينة...
من شموع كربلاء التي كانت تنير عتمة ليالي عاشوراء وتدخل السرور على قلب لحسين (ع) الموجوع، والذي كان يعتبر ممن يتسلى الحسين بوجوده ذلك الفتى الذي خلفة الامام الحسن (ع) ليكون ذخراً لابي عبد الله (ع) في يوم عاشوراء، القاسم بن السبط الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) تربى على يد أبيه كريم أهل البيت (عليه السلام) إمامنا ومولانا وكان يعيش بين القديسين والصديقين فكان قد عُد ليوم عاشوراء ليكون مثالاً لفتيان اليوم وكيف يمكنهم ان يستفيدوا من سيرة هذا الفتى الشجاع الذي لم يدخل قلبه الخوف لنصرة الدين واعلاء كلمة الحق ولذود عن سيد شباب اهل الجنة (ع).
كان هذا الشاب من جملة الذين استجابوا لسيِّد الشهداء بصدق، وقد مثّل طليعة أبناء الحسن، خرج إلى مجالدة الأعداء جندياً صادقاً يشعّ نور وجهه أنعم الله عليه وهو في سنّه المبكر، بإشراق العقل، وفطنة النفس، وعزّة الإيمان، غذّاه عمّه بمواهبه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار مثلاً للكمال، وقدوة للإيمان، كان البطل العملاق يرنو إلى عمّه، ويتطلع إلى محنته، وقد صمّم أن يردّ عنه عوادي الأعداء بدمه، وكان يقول: "لا يقتل عمّي وأنا أحمل السيف"، ولما رأى وحدة عمّه، أحاطت به الآلام الهائلة، اندفع يطلب منه الإذن ليجاهد بين يديه، اعتنقه الإمام الحسين (عليه السلام)، وعيناه تفيضان دموعاً، وأذِنَ له بالجهاد بعد إلحاحه، وانطلق الفتى ببطولة رائعة، وهو لا يعرف الخوف، ويهزأ من الحياة، وليقينه وقوّة بأسه لم يصف على جسده لامة حرب، وإنّما اكتفى بحمل سيفه الذي صحبه معه.
وهكذا كانت استجابة العظماء لخطاب إباء الضيم، فقد حصل هذا النبع من أهل البيت (عليهم السلام) على عظمة الشهادة في قِبال ذلك، إذ ليست الشهادة مُنحة مجانية ولا صدقة، ولكنّها اختيار من الله سبحانه، حيث يقول تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 140).
القاسم ابن الحسن وحب البطولة
تهوى أفئدة الملايين من البشر هذا الفتى الهاشمي، وتذرف الدموع الساخنة عليه كلما مرت مناسبة عاشوراء على المسلمين، ان الانسان قد فطر على حب البطولة، ولولا ذلك لما كانت بطولة ولما كانت هذه المآثر للأبطال وحين نستعرض سيرة القاسم ابن الحسن نجد نمطاً رائعاً من البطولة الفائقة، ولذلك يستهوينا هذا النمط، لان هذا الفتى لما سمع عمه الحسين سلام الله عليه في ليلة العاشر من شهر محرم ينعى نفسه وينعى اصحابه ويخبر الحاضرين بأنهم لمقتولون غداً جميعاً، هنالك انبرى سائلاً: يا عماه هل اكون انا ايضاً ممن يقتل غداً؟
وقبل ان يجيبه سلام الله عليه، سأله كيف الموت عندك؟
قال بكل عفوية: يا عماه في نصرتك احلى من العسل ثم اخبره بانه ممن يقتل، واضاف بأنه حتى ابنه الرضيع عبد الله ممن يقتل فانتفض الفتى وسأله: يا عماه هل يصل العدو إلى المخيم؟
لو نظرنا الى هذين الموقف اولاً: طلبه للشهادة ولمّا تقع الواقعة، وكلمته الرائعة بأنه في نصرة الحسين الموت أحلى من العسل الموت مر وأشد مرارة من أي شيء اخر، ولكن نصرة الحسين (عليه السلام) والدفاع عن القيم تجعل مرارة هذا الحدث ليست فقط مقبولة، وانما تجعلها مطلوبة حتى تصبح أحلى من العسل.
ثانياً: انتفاضته امام الخبر الذي وصل إليه بأن عبد الله الرضيع يقتل إنه لم يتأثر فقط لشهادة ابن عمه الصغير، بالرغم من ان ذلك حدث كبير ويثير الماً شديداً ولكن انتفض غيرة على النساء، وانه كيف يصلون إلى المخيم. وهكذا كانت نفسية هذا الفتى الهاشمي تتلخص في كلمتين؛ في نصرة الحق، وفي الغيرة على الحق.
وفي يوم عاشوراء اذن ابو عبد الله سلام الله عليه حسب بعض الروايات لأخوة قاسم، وبالذات لأبي بكر الذي يبدو انه استشهد قبل القاسم، وكان شقيقاً للقاسم من امه ولكن تباطأ الامام الحسين (عليه السلام) في الاذن للقاسم، لا نعرف لماذا؟ انما حسب هذه الرواية انه قال له: لأتسلى بك.
ولعل الحسين (ع) كان يكن لهذا الفتى حباً عميقاً، وكان يتسلى به ويراه علامة اخيه الحسن، لأنه كان للحسن المجتبى (ع)عظيم الحب في قلوب المسلمين، فكيف بقلب الحسين (سلام الله عليه)؟ وكان الامام الحسين يقول عن أخيه بأنه خير منه ومعروف ان الامام الحسن (عليه السلام) استشهد غيلة بعد ما اضطر الى الصلح مع معاوية، وذلك في الاربعينات من عمره ورافق شهادته بعض الحوادث المرة، كمنع جسده من الطواف حول قبر النبي صلى الله عليه وآله، ورمي جثمانه المبارك بالسهام كل ذلك عمّق الحزن في قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) على أخيه.
وهكذا لما نظر الى القاسم تداعت في نفسه علائم الحسن (سلام الله عليه)، فكيف يأذن للقاسم بأن تقطعه حراب بني امية أمام عينيه ولعله لذلك قال للقاسم حسب الرواية: يا ابن الاخ؛ انت من أخي علامة، واريد ان تبقى لي لأتسلى بك.
اما القاسم الذي كان من جهة متعبداً بولاية عمه وامامه الحسين (سلام الله عليه)، ومن جهة ثانية كان متحفزاً للبراز والجهاد بين يديه وطالباً للشهادة في سبيل الله ونصرة عمه الحسين (ع)؛ فقد انتحى جانباً وجلس مهموماً مغموماً، باكي العين، حزين القلب، ووضع رأسه على رجليه ثم تذكر ان أباه قد ربط له عوذةً في كتفه الايمن، وقال له اذا اصابك ألماً وهماً، فعليك بحل العوذة وقرائتها وفهم معناها، واعمل بكل ما تراه مكتوباً فيها فقال القاسم في نفسه: مضت سنون ولم يصبني من مثل هذا الالم، فحل العوذة وفضها ونظر إلى كتابتها واذا فيها: يا ولدي اوصيك انك اذا رأيت عمك الحسين (عليه السلام) في كربلاء وقد احاطت به الاعداء فلا تترك الجهاد والبراز لأعداء الله واعداء رسول الله، ولا تبخل عليه من روحك ومن دمك، وكلما نهاك عن البراز عاوده ليأذن لك للبراز لتحظى بالسعادة الابدية، فقام القاسم من ساعته واتى الحسين وعرض ما كتب الحسن على عمه الحسين (عليهما السلام)، فلما قرأ الحسين العوذة بكى بكاءاً شديداً، و قال: يا ولدي أتمشي برجلك الى الموت؟ قال: فكيف لا يا عم، وانت بين الاعداء بقيت وحيداً فريداً لم تجد حامياً ولا صديقاً روحي لروحك الفداء، ونفسي لنفسك الوقاء، ثم ان الحسين سلام الله عليه قطع عمامة القاسم نصفين ثم ادلاها على وجهه كأنه اراد ان يصون وجه القاسم، ثم البسه ثيابه وشد سيفه وسط القاسم، ثم أركبه على فرسه وارسله، وقد جاء في رواية ان الحسين (ع) اعتنق القاسم وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما.
وكان وجهه كفلقة قمر، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل على صغر سنه خمسة وثلاثين رجلاً قال ابو مخنف الذي روى حوادث يوم الطف؛ قتل سبعين فارساً وقال حميد ابن مسلم: كنت في عسكر ابن سعد (أعداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام) فكنت انظر الى هذا الغلام عليه ازار وقميص ونعلان قد انقطع شسع احداهما، ما انسى كان الايسر، فقال لي عمر بن سعد الأزدي والله لأشدن عليه، فقلت سبحان الله ما تريد بذلك، والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.
قال: والله لا فعلن فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه.
وقال ابو مخنف: وكمن له ملعون فضربه على ام رأسه ففجر هامته وخر صريعاً ونادى: يا عماه ادركني. وجاء في الرواية: فجاءه الحسين كالصقر المنقض فتخلل الصفوف، وشد شدة الليث المغضب، فضرب عمر (قاتله) بالسيف فاتقاه بيده فأطناها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحى عنه وحملت خيل اهل الكوفة لتستنقذ عمر قاتل القاسم من الحسين (سلام الله عليه)، فاستقبلته الخيل بصدورها وجرحته بحوافرها ووطأته حتى مات فأنجلت الغبرة فإذا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه، فقال الحسين: يعز والله على عمك ان تدعوه فلا يجيبك، او يجيبك فلا يعينك، او يعينك فلا يغني عنك بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدك وابوك، هذا يوم كثر والله واتره وقل ناصره.
ثم احتمله على صدره، وكما يقول حميد ابن مسلم: فكأني انظر الى رجليّ الغلام يخطان في الارض، فقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي ما يصنع به، فجاء به فألقاه بين القتلى من اهل بيته مع ولده علي الاكبر، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم احداً، ولا تغفر لهم ابداً صبراً يا بنو عمومتي، صبراً يا اهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم ابداً.
واستشهد القاسم ابن الحسن وطارت روحه الى الملكوت، ولكن بقيت مآثره وبطولته تحفز الفتيان من موالي اهل البيت ومن المسلمين جميعاً على ضرورة التحدي للطغيان ونصرة الحق ولذلك تجد احد العلماء الكبار وهو السيد الشريف المرتضى علم الهدى يزور القاسم بهذه الكلمات العطرة، يقول: السلام على القاسم ابن الحسن ابن علي ورحمة الله بركاته، السلام عليك يا ابن حبيب الله، السلام عليك يا ابن ريحانة رسول الله، السلام عليك من حبيب ما قضى من الدنيا وطرا ولم يشف من اعداء الله صدرا حتى عاجله الاجل وفاته الامل، فهنيئاً لك يا حبيب رسول الله، ما اسعد جدك، وافخر مجدك، واحسن منقلبك.
عندما نقرأ عن كل شهيد في يوم عاشوراء نجده مصدر للهداية ومثالاً يحتذى به، ان كل من وقف في معسكر الحسين (ع) كان يحمل قصة فريدة لوحدة وكان نبراساً وهادياً لصنف معين من البشر وقدوة لفئة او جنس او عرق او طائفة معينه كان ابطال عاشوراء دروس حية لنا ولمن سبقنا وللجيل القادم من بعدنا.
اضف تعليق