في كتابه إحياء عاشوراء ينبه المرجع الديني السيد صادق الشيرازي بان علينا جميعاً عدم الإخلال بوظيفتنا الشرعية تجاه الاحكام الإلهية والسنن المطهرة لرسول الله وأهل بيته، والالتزام بها بيننا وبين الله، وأن نسعى جاهدين ألا نخرج عن حدود أحكام الله وأن لا نتبعد عن الامام الحسين...
في الرمق الأخير؛ وبينما كان الامام الحسين على الارض لا يقوى على الوقوف من شدّة الجراحات والنزف الحاد، لمح عناصر من الجيش الأموي يزحفون باتجاه المخيم حيث النساء والاطفال، وحيث كانت الدعاية الأموية قد زرعت في عقول الكوفيين بأن من يقاتلونهم خارجين عن الاسلام، فقد كانوا يتحينون الفرصة للانقضاض على مخيم الإمام والاستحواذ على ما فيه، وأسر النساء والاطفال واتخاذهم عبيد وإماء.
في هذه الأثناء نادى الامام الحسين على شمر، وكان من قادة الجيش الأموي، بأن "يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فارجعوا الى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون"، فأثاره هذا النقد اللاذع فقال: "ما تقول يا ابن فاطمة"؟! أجاب الإمام الحسين: "انتم الذين أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهم جناح فامنعوا عتاتكم وجهّالكم من التعرض لحرمي ما دمت حيّا".
القاعدة التي انطلق منها الامام الحسين في رفضه للحكم الأموي هي؛ الاحكام الشرعية، وليست الاحكام السياسية، فملاحظته على الحاكم الجديد بعد معاوية، لم تكن على طريقة أداءه السياسي، او قوانينه، او برامجه الاقتصادية، وإنما كونه شارب للخمر ومتجاهر بالفسق والفجور والمحرمات، فجوهر المعارضة دينية بامتياز، والحرص على تطبيق الاحكام الشرعية في كل الظروف والاحوال، ومنها؛ ما يتعلق بالمرأة ومكانتها السامية في الاسلام.
وفي ساعات المواجهة المحتدمة بين جيش الإمام الحسين وجيش ابن سعد، حصل أن أعاد الامام عدّة نسوة أردن التقدم نحو ساحة القتال لشدّة الانفعال مع الاحداث الجمّة، وكان يؤكد أن "ليس على النساء قتال"، كما كان يبين لهنّ حرصه على بقاء المرأة في حصن الحجاب مهما حصل، إلا اذا حصل الانتهاك والاعتداء كما حصل بعد استشهاد الامام الحسين، ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من حالة الدفاع والتحصّن، الى حالة الهجوم، كما فعلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين، عليهما السلام، عندما حوّلت الأسر الى منبر مجلجل عبر التاريخ يفضح حقيقة من أقدم على جريمة قتل الامام الحسين واصحابه في كربلاء، أمام المسلمين جميعاً، بما يعني انتزاع الشرعية والمصداقية من الحكم الأموي خلال أيام.
ولمن يراجع اللحظات التي مرّت على معسكر الامام الحسين في ليلة عاشوراء، يجد أن العقيلة زينب لم توجه كلمة واحدة الى أكثر الاصحاب قرباً الى الإمام الحسين، وأعمقهم إيماناً وإخلاصاً مثل حبيب بن مظاهر الاسدي، إنما عبّرت عن شيء من هواجسها مما سيحصل في صبيحة اليوم العاشر، فقالت للإمام: "هل اختبرت اصحابك"؟ وحسب المصادر التاريخية، فان وصول هذا الهاجس الى أسماع حبيب وسائر الاصحاب كان بطريقة غير مباشرة، وكان ما كان من الاصحاب في القصة المعروفة في التاريخ، عندما تجمهروا عند خيمة العقيلة شاهرين سيوفهم مجددين البيعة والعزم على التضحية بانفسهم دفاعاً عن الإمام الحسين وعن قيمه السماوية.
وعندما نتحدث عن بقاء الدين حيّاً نابضاً، وناصعاً بفضل تضحيات الامام الحسين في واقعة الطف، فنحن نتحدث عن اجراءات عملية اتخذها الامام، مثل حرصه على أداء فريضة صلاة الظهر تحت زخات السهام وهجمات الاعداء بين الفينة والاخرى، بل حتى البدء بالقتال اساساً؛ فبالرغم من الحرب الكلامية التي سبقت الحرب الساخنة، وتطاول البعض من عناصر الجيش الأموي على الامام، يذكر التاريخ أن مسلم بن عوسجة كاد أن يرمي القوم بسهم له بعد ان استفزوه بكلامهم، فمنعه الامام وقال: "أكره أن أبدأهم بقتال".
فكلما التزمنا بالأحكام الشرعية والمعايير الدينية، كلما كنّا أقرب الى قيم النهضة الحسينية، بل ونعزز مصداقيتنا في جميع ما نقوم به خلال أيام شهري محرم وصفر لإحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، وقطعاً فان العكس بالعكس، وهذا ما يوصي به المرجع الديني السيد صادق الشيرازي في كتابه "إحياء عاشوراء" بان "علينا جميعاً عدم الإخلال بوظيفتنا الشرعية تجاه الاحكام الإلهية والسنن المطهرة لرسول الله وأهل بيته، والالتزام بها بيننا وبين الله، وأن نسعى جاهدين ألا نخرج عن حدود أحكام الله وأن لانتبعد عن الامام الحسين".
وتتأكد الضرورة في الايام والليالي التي تشهد زحام الزائرين لاسيما في مدينة كربلاء المقدسة، وسائر المناطق التي تشهد المراسيم العاشورائية، حيث تتغلب أحياناً المشاعر العاطفية والحماس بدعوى الذوبان في القضية الحسينية فيتم التغافل عن الاحكام والشريعة، وما يجب فعله، وما لا يجب فعله، وإن كان ضمن الشعائر الحسينية، ومن أي شخص كان، فلا أحد اليوم أرفع شأناً من الامام الحسين، وهو آخر ابن بنت نبي في العالم، مع ذلك وضع تضحياته الجسام في طريق أحكام الله، وكان يردد دائماً: "إلهي رضىً برضاك لا معبود سواك"، ولعل من أبرز المدعوين للالتفات الى هذا الجانب المهم في القضية الحسينية؛ النساء والشباب، كونهم يمثلون الشريحة الاكثر تفاعلاً وحضوراً في المراسم العاشورائية، تقع عليهم مسؤولية كبيرة في إحكام الربط بين الاحكام الدينية والالتزامات بالموازين الشرعية، وبين مختلف اشكال الشعائر الحسينية، ما من شأنه ان يقدم صورة ناصعة وحقيقية للنهضة الحسينية الى العالم.
اضف تعليق