في مثل هذه الأيام العاشورائية التي تساعد الطرفين، المنوِّر والمستنير، كلٌ يقوم بما عليه من مهمات، المنبر يُطلِق القيم التضحوية ويبعث بها إلى العقول والنفوس القلقة، والمستقبِل يفتح كلّ أبوابه ونوافذه ويشغّل مجساته لكي يستقبل موجات الضوء منيرا عقله وقلبه ونفسه ومن ثم حياته...
العقل قائد أو (كونترول) الجسد، يحركه كما يشاء، ويُنْطِقهُ كما يريد، لكنه ابن البيئة التي يولد وينشأ فيها، يأخذ عنها محاسنها، ومقابحها، ولا خيار لهُ في الاختيار، فهو إن حصل على زوّادة الخير والجمال صلحَ واستصلح، وإنْ زُوِّدَ بمفاتن القبح ساءَ وأساء، سيبقى الأمر بيد المتحكمين بالبيئة الصغرى والكبرى، فإذا كان الإنسان محظوظا وُلِدَ في بيئة عاقلة عالمة حكيمة، وسيتغذى منها بما يُحسدُ عليه من القيم والأفكار، ولو كان من غير المحظوظين سيأتي في بيئة تزرق في عقله وشرايين دمه كلّ دنيء ومسيء، وهنا سوف تتحدد ماهيّة العقل وسوف يصلح الحياة أو يصيرُ أداة خطيرة لتدميرها.
الأب، الأم، الأخ الأكبر، المنبر، الصديق، المعلم، رجل الدين، المثقف، المفكر، الكتاب، منصّات الإبداع، هؤلاء هم مصادر تغذي العقول بالحياة الصالحة، وإن حدث العكس، هنا سوف تكمن الكارثة، وسوف يتم تدمير القيم والأفكار الصالحة، بلوغاً إلى نهاية الشوط في تدمير الإنسان والحياة معاً.
اليوم تجدّدت ذكرى عاشوراء، واستدارت حولنا وقفة الحسين الكبرى بأحداثها الجِسام، وأمكننا في مثل هذه الأيام أن نستنهض الذاكرة الجمعية، ونستعيد تفاصيل الواقعة العظمى والمصاب الجلل، وننهل من منابع الإيثار الحسيني، لنرفد خواء العقول وكسل الأرواح، ونكبّل أيدي ومعاصم الجشع، ونركل المادة بعيدا عنا ونصحو بكامل قوانا العقلية لنستعيد إنسانيتنا وانتمائنا للخير.
وثمةَ لدينا المنبر، إنه أحد أهم روافد العقل بالخير والمحبة والحرية والجمال، ليس الفلسفات وحدها من تقم الخير والجمال وقيم الحرية على طبق من ذهب لكل ذي طلب، المنبر الحسيني الواعي المكتنز بالفكر الحيوي، يمكنه أن يتبّوأ مكانه التنويري الصحيح، خصوصا في مثل هذه الأيام العاشورائية التي تساعد الطرفين، المنوِّر والمستنير، كلٌ يقوم بما عليه من مهمات، المنبر يُطلِق القيم التضحوية ويبعث بها إلى العقول والنفوس القلقة، والمستقبِل يفتح كلّ أبوابه ونوافذه ويشغّل مجساته لكي يستقبل موجات الضوء منيرا عقله وقلبه ونفسه ومن ثم حياته.
وقد جرَّب الإمام الشيرازي منبرا حسينيا خاصاً به، ارتقى قمته وأطلق خطَبَهُ وبعث بأنواره إلى الأوساط التي تعوزها إنارة العقل، فضخّ لها في مثل هذه الأيام أجمل الأفكار وأعظم القيم واستنارت مع تباين مستوياتها في الاستقبال والاستيعاب، فقد وجّه الإمام الشيرازي دروسه إلى طلاب الحوزات العلمية، وإلى الكسبة، والطلبة وعامة الناس، وكان دأبهُ في كل عاشوراء إطلاق المنبر الحسيني الخاص به، لأنه رأى بحاسته السادسة، أن هذه الأيام تضاعف من قدرة التلقي للخير والقيم الأرفع، وتروّض الإنسان وتجعل منه كائنا خشوعاً ذا قلب وإحساس مرهف.
عن تجربة الإمام الشيرازي مع المنبر يقول:
(في عاشوراء الحسين عليه السلام، رأيت أن أنتهز هذه الفرصة، لخدمة المنبر الحسيني الذي هو من أقوى وسائل الحزن على الإمام عليه السلام في مثل هذا اليوم، امتثالاً لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله الكرام عليهم السَّلام)(المصدر: كتاب تجاربي في المنبر).
ويقدِّم الإمام جملة من الوصايا للخطباء استخلصها من تجربته الشخصية، أولها وأهمها: (التوجّه إلى الله)، فإذا تسلّح الخطيب بهذا التوجّه تضاعفت قدرته على تقديم أفضل ما لديه للحاضرين أو السامعين، لأن التوجه لله يمنح الخطيب ثقة لا محدودة بنفسه وسيمنحه قدرات علمية إضافية عالية التركيز تجعله يتناءى بعيدا عن الزلل، وسوف يؤثر بالمتلقي أيّما تأثير، والإمام الشيرازي يصف حالة التوجّه لله بالكلمات التالية:
(رأيت إبان صعودي المنبر، أن من أقوى وسائل التأثير في الناس: التوجه إلى الله سبحانه بالقلب، فإذا صعد الإنسان المنبر، وتوجه بقلبه إلى الله سبحانه وسأله أن يعصمه من الزلل، وأن يجري الحقّ على لسانه حتى يؤثر كلامه في السامعين، كان ذلك مؤثراً كبيراً).
إن التوجّه إلى الله تساعد القلب أن يتوجّه بالصورة الصحيحة والقوية لجمع الحاضرين أو المتلقين، وقد ثبت هذا علميا، وأكده علماء مختصون في عالم النفس، فمن يخاطب الآخرين بقلبه بصدق، سوف يصل إلى تلك القلوب التي يقصدها وقد: (أثبت علم النفس: أن التوجه بالقلب يسبب انبعاث الكلمة من القلب فتصل إلى سائر القلوب، كتموج الماء بإلقاء جسم ثقيل فيه).
وهناك وصية مهمة للغاية ترد في جملة الوصايا للإمام الشيرازي، حين يوصي الخطباء بنقطة ذات أولوية خاصة، وهي التهيئة النفسية الصحيحة للمتلقي، كي يستقبل ويستوعب ما يُبَثّ له من أفكار وقيم ومعلومات، فليس من المعقول أنك ستُحدِث مفعول القبول لأقوالك وأفكارك عند المتلقي من دون أن تهيّئهُ نفسا لاستقبال فحوى الخطاب الذي ترغب بتوصيله، ويشبّه الإمام الشيرازي هذا الحال، بالأرض التي تحتاج إلى تمهيد وتهيئة قبل الزرع، كالحرث والتسميد والسقي وسواه، فهذه الوصية على جانب كبير من الأهمية والأولوية، ويجب على الخطيب جعل المتلقي مستعدا لاستقبال خطابه حتى تكون هنالك جدوى فعلية من المنبر التنويري.
يقول الإمام في وصيّته هذه: (إن مَثَل الخطيب مثل الزارع الذي يبذر في الأرض فكما أن الزارع ما لم يهيئ الأرض للزرع، بالحرث والسقي، وما إلى ذلك، لا يأخذ النتيجة من بذره الذي بذره، كذلك الخطيب لابد له وأن يهيئ نفوس السامعين للمطلب الذي يريد إلقائه عليهم).
ومن سياق الكلام نفهم أن هذا الاستعداد هو خلق نوع من الخشوع في نفوس المستقبلين للخطاب، لكي تدخل كلمات الخطاب في الأعماق وتمتلك القلوب، فهناك نفوس متكبرة جامدة كالصخر، وهي لا تستقبل الكلام عن الدين ولا النصائح والقيم مطلقا بل تترفّع عليها، فيجب أن يقوم الخطيب بتليين هذه النفوس وإعطائها صفة التواضع الخلاقة، وكلما تواضعت النفس صارت أكثر استعدادا لاستقبال القيم الجميلة، كذا تخشع القلوب وتصبح أرضا خصبة لاستقبال الأفكار المحِبّة للجمال والخير والحرية.
في هذا يقول الإمام الشيرازي: (إن النفس المتواضعة يؤثر فيها الكلام عن الله تعالى أكثر فأكثر، أما النفس المتكبرة فهي كالحجر الذي لا يقبل نفوذ الماء)(المصدر السابق نفسه).
اضف تعليق