حرّي بنا أن نسميهم ملائكة الأرض، فقد وفقني الله أن أشارك في المارثون السنوي لأربعينية الأمام الحسين عليه السلام، واني اذ أعبر عن مشاهداتي كمشارك وليس ككاتب وإعلامي، فالحدث الذي يتكرر كل عام في ظهور غير مسبق للعالم أجمع لابد أن يتم تغطيته إعلامياً وعالمياً وأن يشارك فيه كل الباحثين والإعلاميين.
إن المسير على الأقدام من كافة المدن العراقية الى مدينة كربلاء المقدسة من خمسة محاور تبهر الناظر وتحيــّر العقول، حيث أن السائر يقطع مسافة بحدود 600 كيلو متر من مدينة البصرة ومدينة ميسان ومدينة الموصل ومدينة بغداد وديالى الى كعبة الأحرار ليس بالأمر الطبيعي، ولا بالأمر الممكن ولكنه الحب والإرادة والعشق الحسيني والتضحية التي تذهل تلك البشرية السائرة من غير كلل ولا ملل، لا يمنعهم طبيعة الجو إن كان حاراً أو بارداً أو ممطراً.
تلك هي الانطلاقة المليونية السنوية التي اجتازت كل خطوط ومقاسات موسوعة غينس ولابد أن يجري خبراء العالم إعادة النظر بمقاساتهم ويجعلوها أن تقارن بمارثون كربلاء، فالمشاهدات كثيرة ولابد أن نذكر بعضاً منها ليعرف العالم ما الذي يجري على أرض المقدسات العراقية التي جعلت تلك الملايين زاحفة من العراق ومن دول عربية وأجنبية تحمل أعلامها ترفرف في سماء بلاد الرافدين قاصدين قبة الإمام الحسين عليه السلام.
فالحق يقال لم أرى بشراً !!! بل ملائكة الأرض أنزلهم الله سبحانه وتعالى ليتعاملوا مع البشر، رأيت كبير السن وقد توسط الطريق منحنياً ظهره ومستنداً على عصاه وهو يحمل الطعام متوسلاً بالسائرين أن يتفضلوا عليه بأخذهم قطعة من ذلك الطعام أو قناني المياه المعدنية، وما أن تنظر اليه حتى ترى فيه جدك أو أبيك وقد ضاقت به الدنيا وهو لا زال يحمل شيئاً بين يده ولم يعطيه، فالشيب الذي اعتلى وجهه وانحناءة ظهره لا يمكن أن تنظر اليه بدون أن تذرف دموعك عليه، والأكثر من ذلك عندما تراه يتوسل أن تذهب معه للضيافة يكاد ينزل على أقدام الزائر ليقبلها حتى يذهب معه، فأي حب وعشق هذا الذي أنزله للشارع ليكون خادماً للزائرين بدلاً من أن يخلد الى النوم في مثل سنه. فهل إنتهى ذلك المشهد كلا.
فالمرأة أيضاً لها دور في هذا المارثون والعشق الحسيني والتي توسطت جوانب الطريق لتستوقف النساء اللاتي قطعن تلك المسافات لتتوسل بهن لأجل الضيافة أو أخذ قطعة من الحلوى أو لأجل الافطار او الغداء وما أن تنظر الى تلك العجوز التي شارفت على الثمانون وهي تزحف على ركبتيها لكهولتها متوسلة بالزائرات حتى تقع على اقدامهن لم تتمالك انفاسك من ذلك المنظر المؤلم، وإمراة، أخرى وقفت تحمل على رأسها أطباقاً وهي تقول "هذا ما نملكه في بيتنا فتفضلوا علينا بقبوله لعل الله أن يرزقنا غيره ليوم غد" يا الله ماهذا الشعب الملائكي، وما هذه القدرة الربانية التي تقود هذا البشر وتحوله الى ملائكة الأرض، لا أخفي عليكم لم أتمالك نفسي حيال تلك المناظر التي شاهدتها فحينها شعرت إن الله أرسل جنوداً من الملائكة أبدلهم بشراً لكي يخدموا هذه الملايين الزاحفة الى كعبة الأحرار.
فلم يبعد المشهد حتى إعترضتني طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات وهي تحمل قطع من الكيك المغلف وتريدني أن أخذ منها فوقفت وقبلتها وأخذت لها صورة فقالت "عمو تروح وياي لبيتنا أمي تقول نريد يجي لبيتنا مشاية، فقلت لها عمو بعد وقت الان صباحا ونحن يجب ان نمشي حتى المساء، فكان هناك رجل يراقبها وينظر اليها، فتوقعت أنه والدها فسلمت عليه فقال "هذه بنت أخي الذي استشهد في ساحات القتال ضد داعش" فلم أتمالك نفسي وصرخت وأجهشت بالبكاء فتجمع علينا حشد من السائرين ليستفهموا ما المشكلة وماهذا البكاء، فقال لي "كان أخي يجلس ومعه ابنته هذه الوحيدة ليخدم الزوار فتعودت منذ كان عمرها سنة"، يا الله ما الذي فعله الحسين عليه السلام حتى جعل هؤلاء الملائكة تتنفس صلوات وتتنهد عبادة.
فهل انتهى المشهد كلا لم ينتهي فالمواكب التي نصبت سرادقها على جانبي الطريق وكأنها مطاعم من خمس نجوم تقدم للزائر ما لذ وطاب وما يشتهي ومايروق له فلا يوجد طعام على وجه الطبيعة الا وقدم من قبل مواكب وخدمة الامام الحسين عليه السلام، يصرفون كل ما لديهم من المال وتمويلهم ذاتي لا توجد أي جهة حكومية أو غير حكومية تساهم فيما يقدمه أولئك اصحاب المواكب الحسينية وكأنهم يتاجرون مع الله في تجارة وما أعظمها من تجارة. ورغم كل تلك الأعباء والمصاريف والعمل الشاق ليلا ونهارا على مدى أكثر من عشرون يوماً الا أنهم إهتموا بجانب جداً مهم وهو المحافظة على نظافة محيط مواكبهم من رمي النفايات لهذه السنة بالذات.
فلو إفترضنا أن كل زائر يرمي قارورة فارغة لأصبح مكب نفايات في مساحات شاسعة ولكن الاهتمام بهذا المجال وإكتساب الخبرة والنصيحة قد طورت الخدمة وجعلت الشوارع تبدو وكأنها لوحة مزركشة زاهية الالوان من الزائرين الذين يحملون رايات حسينية وأعلام لدول مختلفة، تعطي للناظر وتثبت أن الإمام الحسين عليه السلام إمام للعالم أجمع وأن كل الناس تحث الخطى من كافة بقاع العالم ليحظون ببركات المشاركة في هذا المارثون السنوي الرائع والذي يجسد يوم الحج.
بل لو أجرينا مقارنة صغيرة فيتبين أن الحج أن زاد فهو ثلاثة ملايين حاج بينما يحج للإمام الحسين عليه السلام ما لا يقل عن 26 مليون زائر، مع العلم أن السعودية تجند كل طاقاتها لإنجاح هذا الحدث المهم بمعنى إمكانيات دولة، أما بالعراق فهي إمكانيات شعبية فالشعب كله يشارك في انجاح هذا المارثون السنوي فكيف لا يكون هذا الشعب ملائكي.
أما الدولة والأجهزة الأمنية فكانت أرقى وأفضل من أي أجهزة بالعالم، فلله الحمد لم يسجل أي خرق أمني، رغم التحدي الواضح لزوار الامام الحسين عليه السلام للإرهاب، فلو كان هذا المارثون في أي دولة أخرى وبهذا الكم الهائل من الملايين لحدث على أقل التقادير شجارات جانبية ولكن بفضل الله وتفاني الأجهزة الأمنية التي لاشك أنها أصبحت ملائكية في عملها وعطاؤها.
وعندما انقل لكم هذه الصورة أتمنى من العالم أجمع أن يذهب ويشارك بهذا الحدث المهم أو على الأقل ليطلع على مجريات الأحداث ولن يكلف ذلك سوى تذكرة السفر فالأكل والمشرب والمبيت مكفول وكل شيء مجاناً.
ألا يحق لنا أن نسمي هؤلاء الناس ملائكة الأرض، متمنين لهم الموفقية والنجاح.
اضف تعليق