لمن يرمي ببصره على الأفواج والجحافل الزاحفة نحو كربلاء المقدسة هذه الأيام لزيارة الإمام الحسين، عليه السلام، في أربعينه، يُخيل اليه أن ثمة عفوية وتلقائية مدفوعة بحماس شديد، وحب عميق لصاحب المناسبة، وهو تصور لا يجانب الحقيقة، بل هو جزء منها، بيد أن الحقيقة كاملةً في هذه التظاهرة الجماهيرية المليونية، وجود ثقافة غير مكتوبة، لكنها مثبتة في الوجدان والقلب الذي يحمل الإيمان والولاء، وهذا ما يجعلنا نلاحظ التطور النوعي في مجالات عديدة داخل هذه التظاهرة التي تبدأ ربما قبل اسبوعين من يوم العشرين من صفر، فهناك التطور في نوع الخدمات المقدمة للزائر من حيث الكم والكيف، كما هنالك التطور في تنظيم المواكب السائرة من مناطق ومحافظات عديدة في العراق، وايضاً من خارج العراق.
كل ذلك؛ يجعلنا أمام منظومة ثقافية متكاملة أيام الأربعين، تتضمن السلوك والتقاليد والصفات الاخلاقية الحسنة ترافق الزائرين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ومن كل شرائح المجتمع.
فما هي ثقافة المشي؟.
أولاً: العطاء
هنالك فرق بسيط بين "الكرم"، وبين "العطاء".. فالحالة الأولى؛ مبادرة يقوم به الإنسان لضيف له، فيقدم له كل وسائل الراحة من منام وطعام وغيرها، بل حتى احياناً وسيلة نقل لذهابه وإيابه الى موطنه. بينما الحالة الثانية، فهي تحمل نفس المواصفات وبنطاق أوسع، إذ ربما لا يلتقي المعطي بمن يتسلّم العطاء إلا نادراً، وهذا ما نلاحظه في أماكن إقامة الزائرين، وسيارات النقل، وتوزيع المواد الغذائية وغيرها من أنواع العطاء.
نعم؛ هنالك مضايف وسرادق متراصّة على الطرق الرئيسية تستقبل الزائرين، وهنالك من يقدم الخدمات المتنوعة للزائرين، كما هنالك أعداد مضاعفة يقفون في الظل، يصلون الليل بالنهار، ويبذلون جهوداً كبيرة، لتوفير الراحة والأمان للزائرين، فهنالك الماء والكهرباء والدفء والوقود، وتوفير المواد الغذائية بكميات كبيرة، وايضاً وسائل النقل وغيرها، كلها أمور يعد لها وتتوفر من خلال جهود كبيرة لأناس ربما لا يحالفهم الحظ ويكونوا متواجدين داخل الموكب وهو يقدم خدماته للزائرين على الطريق.
هذه الصفة الانسانية السامية، نجدها في تقاليد الناس وآدابهم وأخلاقهم، وهم يسعون للمشاركة في هذه التظاهرة الجماهيرية، وخدمة السائرين على الاقدام باتجاه مرقد الإمام الحسين، عليه السلام. هذا الى جانب العطاء المباشر الذي بات أمراً مألوفاٌ في هذه الزيارة، وايضاً في الزيارات المليونية الاخرى الخاصة بالإمام الحسين، عليه السلام، مثل الزيارة الشعبانية، وزيارة يوم عرفه، هذا اضافة الى أيام عاشوراء. نرى أعداد كبيرة من الناس يسارعون الى العطاء والبذل، فمنهم من يفتح داره للزائرين، ومنهم من يقدم الطعام والشراب. وفي الآونة الاخيرة، نلاحظ مبادرات من نوع جديد لتقديم الخدمات لمن لا يمتلك الامكانية المادية الكبيرة، فانه يقوم بغسل ملابس الزائرين أو صبغ احذيتهم أو تسهيل أمر الاتصال بالهاتف الجوال، وغيرها من مختلف انواع الاعمال والمبادرات التي تصب كلها في خدمة الزائر وتسهيل أمر سيره على الاقدام نحو كربلاء المقدسة.
فالزيارة الاربعينية – على وجه التحديد- تشكل فرصة لتكريس ثقافة العطاء والبذل لصاحب الحاجة، وفرصة ايضاً لمكافحة نزعة الأنا وحب الذات والتملّك. هذه المناسبة تعبئ الانسان طيلة أيام السنة، على العطاء والبذل في سبيل القيم والمبادئ، لاسيما اذا رأى مردود هذا العطاء أمامه ويلمسه بحواسه ومشاعره، حيث يتشكّر الزائر مما قدم له من خدمات، كذلك الحال يتجسد بالنسبة لليتيم – مثلاً- عندما يستفيد من خدمات انسانية وثقافية من مؤسسة او جمعية خيرية، أو عندما تشيّد مكتبة عامة يستفاد منها طلبة العلوم الدينية والاكاديمية، ويبدون ارتياحهم من هذه المبادرة الحضارية. بمعنى إننا أمام الزائرين في أيام الأربعين وهم بحاجة الى خدمات متعددة وكثيرة، كما نكون أمام عموم أبناء بلدنا وأمتنا وهم بحاجة الى مختلف أشكال العطاء المادي والمعنوي والثقافي.
ثانياً: الحب لا الكراهية
تبتلى مجتمعاتنا بحالة التنابز والتمايز والتباعد، وكل ما من شأنه التفرقة والنفرة بين أفراد المجتمع، لأسباب اجتماعية، مثل الطبقية، أو أخلاقية وسلوكية تجعل الانسان يدور حول نفسه، ويريد كل شيء له، لا لغيره، ثم يغمره شعورٌ بالتفوق والتعالي على الآخرين لصفة تملّكها أو موقع اجتماعي أو سياسي تسنّمه، أو حتى حيازته لدار وسيعة، أو سيارة فارهة وغير ذلك.. كل ذلك يجعل من حالة الحب والمودة إزاء الآخرين، أمراً بعيداً عن ذهنه وتفكيره، وربما يستغرب هكذا حالة إن طالبه أحد بها، لعدم وجود معنى لها في نفسه.
هذه الحالة أو الظاهرة النفسية، لا وجود لها في "المشي" الى كربلاء المقدسة.. لأن الثقافة هنا، تدعو الى مد يد العون لهذا وذاك، وفي كل الاحوال والظروف، كما تدعو الى التواضع والإيثار والتعاون، وبكلمة؛ حب الخير للآخرين.
والسبب في ذلك الذوبان الكامل في النهضة الحسينية، حيث يشعر الزائر وكل من يسهم في تقديم الخدمات للزائرين، أن لا شيء يحتفظ به لنفسه أمام العطاء والتضحية التي قدمها الإمام الحسين، عليه السلام، من أجل أن تعيش الاجيال من بعده، حرة كريمة، بعيدة عن أغلال الطغاة، وآمنة من المفسدين والمنحرفين. لذا فان مشاعر الحب الجيّاشة والمواكبة للمشي الى كربلاء المقدسة، تعبر عن محاولة الاقتداء بسيد الشهداء، عليه السلام، الذي تميّز ضمن ما تميز به، بحبه للخير للجميع، حتى آخر اللحظات التي سبقت وقوع السيف بينه وبين أهل الكوفة المغرر بهم لقتاله.
وهذا تحديداً من النقاط المضيئة التي التفتت اليها الشعوب المسلمة وغير المسلمة في العالم لدى تعرفها على شخصية الامام الحسين، عليه السلام، وعلى نهضته وقضيته. فلا كراهية، ولا إقصاء، ولا تهميش وتقليل من قدر الطرف المقابل، ما زال يشترك في الأخوة الإيمانية، او التماثل الانساني. وهذا ما لاحظه أعضاء وفد "الفاتيكان" المشاركين هذا العام في "المشي" مع الزائرين، حيث لم يلاحظوا أي حساسية او كراهية من سائر الزائرين، على العكس، هنالك الفخر والاعتزاز بوجودهم في موكب "المشي" لأنهم يريدوا أن تجسيد قيم ومبادئ النهضة الحسينية لهم وللعالم.
المشي.. تيار هادف يقرر مصيره بنفسه
لأن له هدف محدد وواضح، وعوامل ذاتية للتفاعل والحيوية، وقدرة غيبية – معنوية على التأثير في النفوس طيلة العهود والعصور التي مرت عليه، فان "المشي" لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، بات يشكل تهديداً – بشكل أو بآخر- على مصالح الحكام والأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق، لأن المعروف أنها ترمي بالدرجة الأولى الى كسب القاعدة الجماهيرية لتوطيد وتكريس وجودها السياسي وضمان فترة أطول في الحكم، إلا ان هذا "المشي" يشكل هاجساً مرعباً يقضّ المضاجع ما أن تحلّ أيام أربعين الامام الحسين ، عليه السلام، لذا شهدنا طيلة العقود الماضية، في التاريخ المعاصر، وفي العقود الاولى من التاريخ الاسلامي، محاولات عنيفة وشديدة من الحكام لوضع السدود والحدود أمام هذا التيار الجماهيري، وثني الناس من "المشي" لكن دون جدوى.
وهذا يثير السؤال؛ عن السبب الحقيقي وراء هذه المخاوف..؟، لأن "المشي" بالأساس، ليس تظاهرة سياسية، ولا حركة عصيان مدني، ولا أي شكل من أشكال التحرك السياسي الذي تنظمه جماعات سياسية أو نقابات او منظمات مجتمع مدني وغيره، للتأثير على القرار السياسي واستهداف النظام الحاكم، إنما هو – كما هو واضح للعالم- عبارة عن سيل بشري يتشكل بمرور الايام من مناطق مختلفة من داخل وخارج العراق، يتوجه صوب كربلاء المقدسة لزيارة الامام الحسين، عليه السلام، في أربعين استشهاده. وهم لا يحملون بأيديهم سوى الأعلام الحمراء والبيضاء والخضراء، للدلالة الرمزية على وجود مواكب للزائرين، كما لا يحملون في أذهانهم سوى الساعة التي يصلون فيها الى المرقد الشريف.
العقدة العصية على الحل عند أهل الحكم، سواءً عند الحاكمين في العراق او غيره، هي "الولاء" في هذه المسيرة الجماهيرية، فقد قرأ النظام الصدامي في خلال فترة حكمه في العراق، تاريخ هذه الحركة، ووجد أن القمع المباشر والعنيف سبباً في تقويتها وتكريسها في النفوس، لذا حاول في السنوات الاولى من حكمه استيعاب هذه الحركة وتوجيهها بالشكل الذي تخلو فيه من المضامين والمفاهيم التي تحملها ومن أجلها تضم كل هذه الحشود البشرية، فلا حديث عن ظلم ولا طغيان ولا انحراف في النظام الحاكم ، إنما هي زيارة لمرقد أحد أولياء الله الصالحين، كما أي مرقد آخر. لكن عندما وجد الجذور العميقة لتلك المفاهيم في النفوس والضمائر، ألقى قناعه جانباً وأظهر وجهه الحقيقي المعادي لأي محاولة للتغيير والإصلاح، باستخدام أعنف الوسائل وأكثرها وحشية. فكانت المواجهة المكشوفة التي جرته الى حتفه.
من هنا؛ احتفظ "المشي" براية الولاء المطلق للإمام الحسين، عليه السلام، ونهضته الحضارية، وهذه الرسالة – يبدو- انها وصلت الى كل مكان بعد انهيار النظام الصدامي في العراق عام 2003، فقد شهد العالم بأسره، لاسيما المعنيين في العواصم الاقليمية والدولية، حجم وقدرة هذا الولاء في تحشيد وتعبئة الجماهير في أول زيارة أربعين تجري بحرية تامة من دون "صدام"، منذ حوالي اربعين عاماً.. لذا يمكن القول: أن "المشي" حقاً، تيار جماهيري جارف يقرر ويرسم مصيره بنفسه، فهو الذي انطلق وتشكل منذ أمد بعيد، وتطور بفعل التجارب ومستجدات الزمان والظروف الاجتماعية، ليكون بهذا الشكل من التنظيم والتنسيق، حيث تشهد كربلاء المقدسة هذه الايام توافد الملايين من البشر خلال ايام معدودة، لأداء مناسك الزيارة.
لكن؛ هذا ليس كل شيء.. فالتيار الجماهيري الجارف الذي عجز الحكام عن تحجيمه والتضييق عليه، بات اليوم يفرض إرادته على الحكام وعلى الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي والامني.. وهذا هو – بالحقيقة- قمة التطور في قضية "المشي". فعندما تتحول ظاهرة ما الى أمر واقع، فانها تستقطب الجهود والطاقات والامكانات لتكون في خدمتها، كما هي النبتة او الفسيل في الأرض الخصبة، فاذا انطلقت جذورها في الأرض، بدأت تمتص العناصر الغذائية من أملاح وماء، كما تستقبل أشعة الشمس والهواء وغيرها من عوامل النمو والارتقاء، فتتحول الى شجرة باسقة مثمرة، ليس لا يفكر أحد بقطعها، إنما يتوجه الناس للاستفادة منها والاعتزاز بها.
هذا الدرس فهمه الناس وابناء الأمة في كل مكان، وقد بلغت حالة النضج اليوم مرحلة متطورة، بقي أن يفهمه المسؤولون الحكوميون في البلاد التي ينطلق منها الزائرون، وعندما تصل الرسالة بشكل صحيح الى هؤلاء، فانها ستصل بالشكل نفسه وأكثر قوةً الى من يشعر بالخوف الشديد من هذه الظاهرة والحركة، ليس على مستقبله السياسي، إنما على عقيدته وتاريخه، وهذا أشد خطراً، لأن العقيدة هي التي تحمل النظام السياسي وتضمن له الاستمرار في الحكم. وهنا يتحدد المسار؛ إما أن تتراجع وتدع "المشي" يشق طريقه الى الأمام ولا تتعرض له، كما لو أنه لا يستهدف بالأساس التنظيمات الارهابية والتكفيرية، ولا الدول التي تقف خلفها. وإما ان يكون تختار المواجهة وتكرار التجارب الفاشلة للحكام السابقين على مر التاريخ الذين دفعوا ثمن حياتهم السياسية وخلفيتهم العقائدية والفكرية، من أجل إيقاف هذا "المشي" وهذا التيار الجماهيري، لكن دون جدوى.
اضف تعليق