إبان كان العراق تحت سلطة الطغيان كان زوار أربعينية الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) يتنقلون من قرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، مشياً على الأقدام متخفين من أعين عصابات النظام المباد التي كانت تلقي القبض على الزوار وتزجهم في سجون الاعتقال والتعذيب، وبعد أن من الله (عز وجل) بخلاص العراق من نظام الاستبداد، ومنذ عقد من السنين، يشهد العالم في زيارة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) حدثاً فريداً بامتياز، حيث يتجمع أكثر من عشرة ملايين إنسان في مدينة كربلاء لإحياء ذكرى حزينة عمرها أكثر من ألف وأربعمائة عام.
ومن المتوقع أن يقارب عدد الزائرين ثلاثين مليوناً، في غضون السنوات الخمس القادمة، هذا الحشد البشري العظيم الذي ليس له مثيل في العالم، جعل الزيارة الأربعينية مشهداً ملفتاً لأنظار العالم، ومدهشاً للعقول، ومستهوياً للقلوب، فلم يذكر تاريخ الأزمان الغابرة والحاضرة أن يدفع حب أتباع لإمامهم أو قائدهم لأن يقطعوا مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، مستصحبين معهم الأهل والعيال لزيارة ضريح إمامهم المقتول، حيث يتركون تجارتهم، ويتقوون على علل أجسادهم، ويغالبون همومهم، ويصارعون الحر القارض والبرد القارص والعواصف والأمطار، ويبذلون الأموال والأرواح غير مبالين لسيوف الذبح التكفيري، وغدرهم الأسود، وسياراتهم المفخخة.
ما يدهش أيضاً في المشهد الأربعيني، اندفاع الزائرين للبذل والإيثار والعطاء، بينما يتملكهم شعور بأنهم لم يقدموا شيئاً لـ (إمامهم المظلوم) الذي قدم لهم وللبشرية كل شيء.
الكثير من المؤمنين والمؤمنات قتلوا في سبيل القضية الحسينية المقدسة على مر التاريخ، وخصوصاً في زمن بني أمية وبني العباس، فلمدة قرن كان القتل والتعذيب والسجن ومصادرة الأموال والأملاك مصير كل من يشترك بعزاء الإمام الحسين (عليه السلام) أو من يذهب إلى زيارته، وحتى من كان يسمي ولده حسيناً، كان يتعرض للسجن والقتل.
يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (مع كل هذه المظالم التي تعرض لها زوار الإمام الحسين (عليه السلام) ومحبو أهل البيت (عليهم السلام)، التي يقول عنها بعض السذج من الناس بأنها إلقاء النفس في التهلكة، وأن القرآن ينهى عن ذلك، مع كل ذلك لم ينه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) شيعتهم وأتباعهم ومحبيهم عن إحياء القضية الحسينية أو عن زيارة الإمام الحسين (عليهم السلام)، بل كان أهل البيت (عليهم السلام) يقرون ذلك، وكانوا يدعون الله (عز وجل) في صلواتهم وسجودهم(عليهم السلام) بأن يمن بالرحمة وبالجزاء الجميل وبالأجر العظيم على زائري الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) وعلى الذين يحيون القضية الحسينية المقدسة).
أربعينية بعد أربعينية، تؤكد الوقائع أن الحسين (عليه السلام) منهج فيه يستكمل بنو البشر إنسانيتهم، وأن الحسين (عليه السلام) سبيل به يجتمع الناس على قيم العدل والحرية والمحبة والسلام، وأن الحسين (عليه السلام) وسيلة عبرها تتوحد جهود المسلمين وطاقاتهم، ليتعاونوا على البر والتقوى من أجل خير أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم والإنسانية جمعاء، الأمر الذي يؤكد أهمية تشجيع الناس على زيارة سيد الشهداء (عليه السلام)، وتنمية وعي الزائرين بعظمته (عليه السلام)، وضرورة التمسك بنهجه الإصلاحي.
يقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره الشريف): (إن المتتبع للأحاديث التي جاءت حول فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يدرك عظمة هذا الشهيد الطاهر، وعلو مكانه، وارتفاع شأنه وشموخه في العالمين ومقامه عند الله عز وجل).
إن النهضة الحسينية حركة إصلاحية شاملة تبدأ بذات الإنسان والمجتمع والدولة، ومن هنا، فإن الشعائر الحسينية اتسمت بسمة الإصلاح والتغيير، فكانت المجالس الحسينية _وما زالت_ نقطة إنطلاق نحو تحقيق قيم الإيمان والحرية والعدل والفضيلة. يقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره الشريف): (أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُخرِج الأمة من المنكر إلى المعروف، وأن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردي، القائم على الخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأضرابهم، فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يُحرّف، فأراد أن يعيد الدين غضا طرياً).
قال الإمام الحسين (عليه السلام) في بداية نهضته: (إني خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي). هذا الشعار يعرّف بجوهر قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته النهضوية، ويحدد الأهداف التي ينبغي على الحسينيين السعي إلى تحقيقها. فإن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء تتحرك من أجل إصلاح الذات أولاً، ثم المجتمع، للوصول إلى إصلاح الدولة باعتبارها المؤسسة التي تشرف على إدارة أمور المجتمع. وهذه القيم الحسينية النهضوية، العالم اليوم بأمس الحاجة إليها، وهو متخم بآلامه وظلمه ومعاناته، وبمشاهد الدم المسفوح، وبالاحتقانات والعصبيات والنزعات العدوانية، وبالأزمات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وحيث إن جهاد قطع الرؤوس يغطي أكثر من بلد، وأخبار الفساد بأنواعه تملأ الصحف والفضائيات.
إن حب الحسين (عليه السلام) الذي يدفع الملايين لقطع المسافات الطويلة مشياً على الأقدام متحدين المخاوف والأخطار في زيارة الأربعين، من المفترض أن يدفع تلك الملايين باتجاه الهدف الذي تحرك سيد الشهداء (عليه السلام) باذلاً نفسه وأهله وأصحابه من أجل تحقيقه، الأمر الذي يؤكد ضرورة العمل على تحويل حب الإمام الحسين (عليه السلام) المتجذر في نفوس الحشود المليونية _الأربعينية على وجه الخصوص_ إلى حب يستوجب اتباع هدى سيد الشهداء (عليه السلام)، واقتداء بنهجه، وعمل بأوامره وإرشاداته (عليه السلام)، عملاً بمقتضى قوله (عز وجل): (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(آل عمران/31).
إن سعي المؤمن لبناء دولة العدل والحرية والرفاه، ومواجهة المصاعب التي قد تحول دون تحقيقها، ضرورة ينبغي ألا يتقاعس عن تحقيقها. وكما ينبغي على المجتمع المؤمن أن يغتني إيمانياً وأخلاقياً وعلمياً، فإن عليه أن يسعى من أجل أن يرتقي مادياً، ليصبح ذاتاً فاعلة واعية للإبداع الحضاري. وإن هذا النمو المطلوب ينبغي أن يشمل التحرر الكامل من مظاهر الضعف والتخلف في شتى ميادين الحياة، يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (يجدر بالزوار عندما يزورون الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحاولوا _إضافة إلی الإلحاح في الطلب والتضرع_ أن يصلحوا أنفسهم، وأن يكونوا في وضع تقتضي الحكمة أن يعطيهم الإمام (عليه السلام)، ويستجيب لهم، وعليهم أن يجتهدوا لنيل المراتب العليا في مجالات الحياة، وأن يرتقوا بحال أسرهم ومجتمعهم إلى أفضل حال).
إن توظيف حب الملايين الأربعينية للإمام الحسين (عليه السلام) في طريق الإصلاح، ينبغي أولاً أن يبدأ من خلال تحديد السبل الكفيلة لأن تكون الملايين الحسينية، التي ظلت وفية لإمامها رغم جور الجائرين وكيد الظالمين وإرهاب التكفيريين، قوة تغيير لتحقيق الإصلاح العظيم الذي نشده الإمام الحسين (عليه السلام)، كما أن تحويل الملايين الحسينية إلى حشد إيماني إصلاحي يحتاج أولاً إلى الإجابة عن سؤال في غاية الأهمية، وهو: ما هي المشكلة التي تجعل المجتمع يعاني من نسب عالية في الفساد والتخلف، وهو يضم بين أفراده ملايين المؤمنين والمؤمنات؟! وإن حل إشكالية هذا التناقض الإيماني أو النفسي ينقل عمل المصلحين العاملين من دائرة التنظيرات والتمنيات إلى جادة الحل والتغيير، وهو المطلوب اليوم.
اضف تعليق