q

الجواب الذي قدمه الفرزدق للإمام الحسين في الطريق الى الكوفة، في سؤاله عن أحوال أهلها، وقال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، ينطوي على دلالات نفسية عميقة، وتعبر عن حالة غير سوّية ابتليت بها الامة كأحد افرازات السياسة الماكرة لمعاوية بعد استيلائه على مقاليد الأمور من بعد استشهاد الامام علي وابنه الحسن، عليهما السلام، فقد جمع بين الحرب الناعمة بشراء الذمم والولاءات بالاموال والامتيازات، وبين الحرب الساخنة بتصفية المعارضين، لذا وجد شريحة واسعة من الامة أنها أمام واقع جديد صنعه معاوية لم تألفه من قبل تغذيه ثقافة المصلحة الخاصة، وما تتطلبه من التزلف والوصولية والازدواجية في السلوك والموقف، وقد حفظ لنا التاريخ ظاهرة "الوقوف على التل أسلم" خلال المواجهة المحتدمة بين الامام علي، عليه السلام، ومعاوية، ومن ثمّ في عهد الامام الحسن، فان الناس في ظل حكم معاوية يعدون الامام انساناً صالحاً، بيد انهم يقرونه بالصلاح مع معاوية.

هذه الظاهرة المرضية تواصلت في النمو والاستفحال مع وصول يزيد على اعتاب السلطة واستخلاف ابيه، والخطوات السريعة التي اتخذها لأخذ البيعة من الامة، وفي الطليعة الوجوه البارزة وفي القمة، الامام الحسين، عليه السلام، وكان لأهل الكوفة موعداً مع الاختبار التاريخي والعسير، كونهم خاضوا بانفسهم اختبار الموقف الحاسم بين الحق والباطل دون أن يجبرهم أحد، وعندما غيّر عبيد الله بن زياد ولاء الناس وأبعدهم عن مسلم بن عقيل بالتهديد والتخويف وغيرها، ظنّ أهل الكوفة أنهم قادرين على البقاء على التل وسط المواجهة، كما فعل أسلافهم، بيد أن القرارات الحاسمة جاءت من الشام بددت تصوراتهم وجعلتهم أمام مفترق طرق لا ثالث له، وهو ما كانوا يخشونه، فكان السقوط المريع.

ومنذ واقعة كربلاء اختفت الحالة الرمادية من الثقافة الاسلامية في الامة، فبرزت بقوة جبهة الحق، متمثلة بمدرسة الحسين ونهج الاصلاح والتغيير والكرامة، تقابلها جبهة الباطل، متمثلة بكل أشكال الفساد والانحراف والطغيان، الذي لا نعده محصوراً في اروقة الحكم، وإنما بالامكان استشعاره في مختلف نواحي الحياة، الاجتماعية منها او الاقتصادية وايضاً السياسية.

بيد أن الملاحظ عودة أعراض لهذه الحالة في الوقت الحاضر بأشكال مختلفة، وهي تبحث عما يصفه البعض "بالحالة الرمادية" بين الابيض والاسود، او "الوسطية" وغيرها من المصطلحات الحديثة، وجاء الجهد الفكري ليضفي على هذه الظاهرة مسحة فلسفية لتمريرها في الواقع وتجد لها المصاديق العملية، عند الحديث عن "نسبية الحقيقة" او عدم صحة إصدار الاحكام المسبقة على الاشياء، فربما يكون هذا السلوك او الفكرة سيئة في مكان، ولكنها تكون جيدة وحسنة في مكان آخر، فلا مكان للمعايير الثابتة والقيم والموازين، حتى وإن كانت أخلاقية او انسانية.

وقد عالج علماء الدين هذه الظاهرة من خلال قاعدة دينية وهي؛ التولّي لأولياء الله و التبرؤ من أعداء الله، وهي من فروع الدين العشرة والتي شكلت أحد دعائم النهضة الحسينية، ولذا نجد الامام الصادق، عليه السلام، يسلط الضوء على هذه النقطة المفصلية في زياراته المروية للإمام الحسين، عليه السلام، ومنها زيارة عاشوراء، التي تحمل هذا المبدأ وتشترط الايمان والولاية بالتبرؤ من الطرف المقابل للإيمان والولاية، ولا يكون كافياً إعلان الحب والولاء للإمام الحسين وأهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فهذا ما قاله الأقدمون طيلة اربعة عشر قرناً، فما الذي جنته الامة من هذه الولاية؟! إنما المطلوب التبرؤ من الظالم والمفسد والمنحرف.

وعندما نتحدث عن هذه المفردات السيئة في الطرف المقابل، فلا يعني التقيّد بالأسماء و الرموز ، وإن كان في ذلك أهمية، بيد أن الأهم التبرؤ من الافعال والمنهج الذي يخطّه الحاكم الظالم او التيار المنحرف في المجتمع، وهذا تحديداً ما واجهه الأئمة المعصومين، بدءاً من أمير المؤمنين، وحتى الامام الحجة المنتظر، عليهم السلام، فالامام علي، لم يكرّس جهده وقدراته لمواجهة شخص مثل معاوية، إنما كان يواجه بذور الفتن الاجتماعية والامراض النفسية التي كانت تتحرك بهدوء، فكان يراقب ويتابع حركات الحسن البصري –مثلاً- الذي تصور أنه توصل الى حقيقة أن القاتل والمقتول في النار، عندما لقيه يتوظأ بشكل خاطئ وحاول التملّص باتهام الامام بإراقة الدماء في حرب الجمل، ثم قال، عليه السلام، عنه: "...انه لكل قوم سامرياً وهذا سامري هذه الأمة، أما انه لا يقول لا مساس ولكنه يقول: لا قتال".

ولذا نجد علمائنا يشددون على مبدأ التولي والتبرؤ كأحد المداخل لفهم واستيعاب دروس النهضة الحسينية والاستفادة الكاملة والحقيقة منها لما يفيدنا في حل جميع مشاكلنا، ولعل هذا يفسّر السر الدفين في مشاعر الفخر والاعتزاز بالمشاركة في إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، في ايام محرم وصفر، سواءً بالمواكب الخدمية او المواكب الراجلة وحضور المجالس، ثم الكتابة والخطابة والتعبير عن القيم والمفاهيم التي ضحى من اجلها الامام الحسين، وهذا نجده ليس فقط في اوساط الشيعة، وإنما في اوساط المسيحيين والصابئة وسائر الديانات والمذاهب فضلاً عن سائر المذاهب الاسلامية. فقد سئمت الامة والعالم ايضاً من الضبابية القاتلة والسير في المتاهات بحجة البحث عن الحقيقة بوسائل مختلفة وطرق حديثة، وهذا ما ينتج المزيد من التخلف والحرمان والمآسي.

اضف تعليق