q

المجتمعات الإنسانية ليست لها معنى إن تجردت عن الأخلاق الفاضلة، إنها تموت إن هتكت الحرمات وتعامل الأفراد فيها بسوء مع بعضهم البعض أو مع غيرهم، وكما قال العظماء إن الفرد المسلم لا يعامل المجتمع بصلاته وصومه وإنما بأخلاقه وصفاته الحسنة.

لذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): الخلق وعاء الدين.

من هنا نلاحظ أن الثورة الحسينية تعد من أكثر الثورات تأثيرا في النفوس، وذلك لسمو الأخلاق وارتفاع المعنويات وتخليدها في كل سطر من سطور عاشوراء، حيث نجد الرقي والسمو في القيم التربوية والأخلاقية التي تجسدت في الواقع العملي لشرائح المجتمع، حيث تم نشر كل القيم والمبادئ التي نادي بها الإسلام، لذلك هناك مواقف كثيرة سجلت نفسها في كتاب الطف المتسامي.

أفضلية القيم عند الحسين (ع)

ومن أخلاقه (عليه السلام): لما التقى الحسين (ع) وأصحابه مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حَرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين (ع) لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفاً، وقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم، وأقبلوا يملأون القصاع والأتوار والطِّاس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه، وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها. ولما حضر وقت الصلاة قال الحسين (ع) للحر (ع): أتريد أن تصلي بأصحابك؟.*1

موقف آخر في يوم عاشوراء

‏نظر الحسين (ع) الى الجيش الزاحف وتأمل به طويلا ولم يزل الحسين كالطود الشامخ، قد اطمأنت نفسه وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر الجيش الجرار أمامه فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا

يتهافتون على ذهـــــــــــــاب الأنفس

فلم ترهبه كثرة الجيوش ولم توهن عزيمته كثافة الصفاح والأسنة، وقد حصّن الحسين (ع) مخيمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفات من الخلف وليحمي النساء والأطفال من العدوان المحقق والمباغتة.

نظر الشمر الى النار وهي تلتهب في الخندق فصاح ‏تعجلت النار قبل يوم القيامة يا حسين، فرد عليه: أنت أولى بها صليا. حاول صاحب الحسين ‏مسلم ابن عوسجة أن يرميه بسهم فاعترضه الحسين عليه السلام ومنعه قائلا لا ترمِه فإني أكره أن أبدأهم بقتال. مع ذلك فكان هذا الشقي الشمر بن ذي الجوشن هو الذي قتل الحسين عليه السلام بعد ساعات من ذلك اليوم *2

هذه قيم سبط الرسول صلى الله عليه وآله، إنه كجده رسول الله كما ورد في التاريخ إنه صلى الله عليه واله لم يبدأ أي حرب مع طرف آخر، بل كان يدافع ضد الهجمات عن نفوس المسلمين ولا عجب أن يفعل حفيده عليه السلام بأسلوب جده صلى الله عليه وآله، وعلى شريعته التي أكدت مبدأ الأخلاق في رأس الأمور، لذلك يكون مقياس التدين الأخلاق الفاضلة التي بشّر بها الأنبياء والأوصياء، وهكذا نقرأ في زيارته عليه السلام: (لتنقذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة).

هنا لابد وأن نعرف إن الحسين عليه السلام لم يقتل بسبب الصلاة لأن جيش الأعداء أيضا كانوا من مقيمي الصلاة، وكما ورد في النصوص التاريخية إنهم كانوا من حفاظ القرآن وكانوا من المصلين الذين في جباههم أثر السجود، ولكن وقفوا في وجه سبط النبي وقتلوه بأبشع صورة، حتى أنهم صلوا على جثث موتاهم وتركوا جسد ابن بنت رسول الله ورحلوا.

أما ثورة الحسين (ع) فكانت لأجل ترسيخ المبادئ الحق والأخلاق الفاضلة والقيم السماوية، لأن الحسين من أصول الدين فكيف يقتل لأجل فرع من فروعه؟، إنها ثورة بين الحق والباطل، بين السمو والذل، بين ملكوت السماء وقعر الأرض، بين النار والجنة، بين الولاية والسقيفة.

إن ثورة الحسين تطلب منا أن نتحلى بالأخلاق الحسنة في جميع الظروف وكل مجالات الحياة، إنها تحارب المناهج السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية الأموية الباطلة، وتطلب منا أن نقف في وجه الباطل ونرفع شعار الحق عاليا، حتى وإن كان يفوقنا الطرف المضاد من حيث العدد والإمكانات، لأن الحضارات التي تتجرد عن الأخلاق، تعد من الحضارات البالية الرثة التي لا قيمة لها في تاريخ الحضارات والفلسفة والمعرفة، لهذا يمكن أن تنهار في أية لحظة، وهذا ما حدث بالفعل لبعض الحضارات المزيفة، فالمجتمع من دون أخلاق ومبادئ وقيم راسخة يتحول إلى مملكة من القراصنة تنهك فيها الحرمات وتمحى في القيم وتضمحل الأخلاق ويحكما قانون الغاب والسلطة الغاشمة.

والثقافة من دون أخلاق تتحول إلى عبء حتى العلم من دون منظومة الأخلاق يتحول إلى سلاح مدمِّر يقضي على العالم ويصبح قاتلا للإنسانية جمعاء، كذلك يتحول الإسلام من دون الأخلاق إلى نصوص غير مؤثرة على النفوس، وتتحول الى أفكار ومضامين طاردة للجميع بدلا من أن تجذبهم وتغرس في ذواتهم القيم النبيلة. وهكذا تصبح الحياة من دون الأخلاق أشبه بغابة مظلمة، يركض فيها الجميع بسرعة كبيرة دون علم ولا معرفة بما يفعلون، وماذا ينتظرهم في نهاية المطاف؟!.

إن الحسين (ع) يعلمنا السير في الطريق الصحيح وفق قيم وأخلاقيات لا غبار عليها من حيث المبدئية والانتصار للإنسان، ونتعلم أيضا مواجهة الأعداء حتى في أحلك الظروف ولكن شرط التصرف معهم وفق المبادئ والأخلاق الرفيعة، مع أهمية وحتمية عدم فسح المجال لأية عصبية أو حقد أو غضب في أي مكان أو أي زمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- أنساب الأشراف: ج 3 ص 169؛ تاريخ الطبري: ج 4 ص 302.
2- منهاج الخطباء ص30 .

اضف تعليق