عاشوراء، كقطرات المطر التي تنزل من السماء تحيي الأرض بعد موتها، إذا ما استثمرت بالشكل الصحيح، وكما أُريد لها، سوف تعطي ثماراً طيبة تنتفع بها البشرية، وكلما استثمر المزيد من هذه القطرات كلما مُلئت الأرض زهوراً ورياحيناً.

تعالوا نفكر في تأثير هذه القطرات لعاشوراء وكل ما يرتبط بالنهضة الحسينية المباركة، من خلال نظرة واقعية تقربنا أكثر من إسلام ديناميكي مضمونه رسالة مفادها أن "الدين بكل ما يحوي هو عبارة عن فكرة حضارية لبناء المجتمع وعمارة الأرض، حتى وإن كانت هذه الفكرة مأساوية كإحياء عاشوراء"!

في القرن الحادي والعشرين، نحن بحاجة إلى قراءة متجددة لعاشوراء وكل ما يرتبط بها من قيم، إلى قراءة عميقة توظف تراجيديا عاشوراء في محاربة الأفكار السلبية وتحدي الطواغيت وتغيير واقعنا المعاش إلى الأفضل ونتطلع نحو مستقبل الرفاه، كل ذلك ليس مجرد تنظير، وإنما ببرامج عملية وبتطبيقات وتجارب حية.

لماذا نبحث عن الجديد في عاشوراء؟

المأساة وتفاصيلها في واقعة الطف واحدة، ولا يمكن أن يطرأ عليها شيء جديد، ولكن ما نبحث عنه وندعو إليه هو أن نربط واقعنا الجديد المتغير بأهم ثمار هذه النهضة، لأن روحها قادرة على انتشال الأمة من واقعها المتهالك، ولكن بعد أن نعي أهدافها جيداً ونستحصل المعرفة الكافية لتحقيق ذلك.

يقول الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) لقد "قام الإمام الحسين عليه السلام في سبيل إحقاق الحق ونشر العدالة الإلهية والحرية الحقيقية، ومحاربة الباطل وأهله.. وليكون درساً للحق يقتدى به، فجميع ما عمله الإمام عليه السلام، من بذل حياته، وأهل بيته وكل شيء في الدنيا، كل هذا ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتطبيقاً لأوامره".

من هنا ينبغي أن يكون أحياء هذه النهضة عبر شعائرها المتنوعة إحياءً لا يخلو من ذلك الوعي بالأهداف التي حققها أبو عبد الله، فتخيلوا قيمة ما سوف نجنيه من ثمار هذا الوعي.

وينبغي لنا هنا أن نستحضر أمرين مهمين قام لأجلهما الإمام الحسين، عليه السلام، وهما: "مرضاة الله تعالى" و"تطبيق أوامره"، عندها سيكون الأمر مختلفاً عن أي إحياء عادي، إنه إحياء مسؤول، يشعرنا بمسؤوليتنا تجاه الله وأنفسنا ومجتمعنا.

يقول المجدد الشيرازي (رحمه الله): "إن لمجالس العزاء أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وإن للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب. وهذا مما لا ينكر..".

أن السؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرح ونحن على مقربة من موسم عاشوراء القادم، هو كيف يمكن أن نستثمر هذه النعمة النازلة من السماء عبر هذا الحدث السنوي ابتداءً من الأيام الأولى لشهر محرم الحرام وحتى العشرين من شهر صفر الخير، حيث يحتفي الملايين من المسلمين بذكرى مقتله وبأربعينيته؟

هنا يقدم لنا الإمام الشيرازي (رحمه الله) جملة من الرؤى والبرامج الحضارية النافعة في استثمار عاشوراء وكل ما يرتبط بقضية الإمام الحسين عليه السلام.

عاشوراء والإصلاح السياسي

فيما يرتبط بالواقع السياسي، يرى الإمام الشيرازي (رحمه الله) أن ثقافة عاشوراء وواقعة الطف خير من يخلص الأمة من الأزمات السياسية المتراكمة حيث يقول:

"يمكن أن يستفاد من واقعة الطف في حل المشاكل السياسية التي تعاني منها الأمة، والتي منها:

أولًا: مشكلة الإستبداد والدكتاتورية السائدة في العالم الثالث، وفضح الطواغيت الذين اتَّخذوا عباد الله خولًا وماله دولًا ودينه دغلًا.

فمن الضروري جداً لأي ثورة أو مطلب إصلاحي أو مشروع تغييري في أي مكان من دول العالم الإسلامي أن يضع أمامه أولاً تطلعات الشعوب الإسلامية إلى جانب تطابقها مع المبادئ التي نادى بها الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وإن لم تكن كذلك، فإن بإمكان القادة السياسيين أو الثوار أن يوجهوا بوصلة الجماهير نحو هذه المبادئ ليكون النصر حليفهم إن شاء الله تعالى.

عاشوراء وتحقيق التكافل الاجتماعي

ومن أبرز مصاديقه، نجاح الإدارة الجماهيرية في سد احتياجاتها ذاتياً دون الحاجة للحكومات، هو ما يقوم به أهل العراق سنوياً في موسمي عاشوراء والأربعين، فهناك مئات الآلاف إن لم نقل الملايين من المواكب الحسينية والهيئات الخدمية التي تنتشر من شمال العراق حتى جنوبه على امتداد الطرق المؤدية إلى كربلاء لتقديم خدمات (نوعية) للزائرين الوافدين لإحياء شعائر الحسين عليه السلام.

وما يؤكد عليه الإمام الشيرازي (رحمه الله) في هذا الصدد هو توظيف هذا الحماس فيما يرتبط بالشعائر الحسينية والإنفاق الذي يواظب عليه محبو أهل البيت عليهم السلام في تحقيق التكافل الاجتماعي وقضاء حوائج المؤمنين من اخوانهم وعدم الاعتماد على الحكومات وحدها في هذا الجانب.

يطرح سماحة الامام الراحل ثلاثة جهات بإمكانها القيام بمهمة التوجيه العقلي وتغيير السلوك الإنساني في قضاء حوائج الناس وإنجاز الخدمات الفردية والعامة كما يعبر في كتابه الاستفادة من عاشوراء، وهذه الجهات هي:

1- الخطيب: بتوجيه الناس وإرشادهم إلى أهمية التكافل الاجتماعي، وإلى أعمال الخير، وذكر القصص المشوقة، وسرد الآيات والروايات التي تحث على ذلك.

2- هيئة أمينة ومخلصة تتشكل في كل مسجد وحسينية ومدرسة و... وتنبثق من كل مجلس حسيني، لجمع التبرعات وقضاء حوائج الناس وفق سُلّم الأولويات.

3- مساهمة الناس الخيريين والتجّار الأثرياء في التبرع والتمويل.

بناء المستشفيات والمدارس

ويمكن أيضاً عبر المجالس المنتشرة في شتى بقاع الأرض تأسيس مائة ألف مؤسسة خلال كل عام من: مدرسة، ومسجد، وحسينية، ومكتبة، ومستشفى، ومستوصف، ودور الأيتام، وإذاعات، وتلفزيونات، ومراكز للدراسات، وإصدار المجلات والجرائد، وليس ذلك بالأمر المتعسّر، إذا امتلك الإنسان إرادة قوية وعزماً راسخاً وهمة عالية، ولربّما كان بمقدور الفرد الواحد أن يصنع الكثير.

التغيير الثقافي المنشود

بالامكان الاستفادة من موسم عاشوراء أيضا في بناء وتنمية الإنسان، على أن يكون تحديد الفئات حسب الأولوية والأهمية القصوى، فمثلاً لابد ونحن نشهد هذه الأيام أتساع دائرة الإلحاد والتيارات الفكرية المنحرفة أن نهتم بتحصين الشباب، وفي هذا الجانب يشير المجدد الشيرازي (رحمه الله) إلى هذه الفئة، إلى جانب فئات أخرى. يقول سماحته:

"على المؤسسات الدينية والمجالس الحسينية والمواكب العزائية الاهتمام بالشباب والنساء والعجزة والأطفال".

التوصيات

إن أمام المجالس الحسينية والهيئات الخدمية والعامة مهام كبيرة، وابتداءً من الخطيب الحسيني الذي يرتقي المنبر في أيام محرم وصفر، وحتى أصغر (خادم) في الهيئات الحسينية، ينبغي أن يعي جيداً الأهداف التي تسعى لها نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، ويتأتى ذلك من خلال عدة نقاط سطرها الإمام الشيرازي (رحمه الله) وهي على النحو الآتي:

1- تحريض الخطباء على إلقاء أفضل التحليلات النفسية والاجتماعية والتاريخية والعقيدية و.. وهذا من أفضل الطرق لشد الناس إلى الايمان ولغرس معالم الدين والفضيلة في حياتهم.

2- دعوة أفضل الخطباء القادرين على أداء هذه المهمّة، فإنّ تقويم وإصلاح المجتمع أو الفرد الواحد لا يثمن بشي‏ء، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (لئن يهدي الله بك رجلًا واحداً خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمس).

3- المساهمة في تدوين ونشر المحاضرات التي تلقى في مراكزهم وتوزيعها بين الناس.

4- الاهتمام بالعائلة عبر حثها دائماً على أن تكون حاضرة وبقوة في المناسبات الدينية وعلى رأسها إحياء عاشوراء وزيارة الأربعين.

5- اصطحاب الأطفال والنساء للمجالس الحسينية، مع حفظ الموازين الشرعية.

6- التركيز على مشاريع التغيير والإصلاح والشورى والحرية ومكافحة الطغيان والاستبداد والفساد السياسي والمالي.

7- العمل المشترك مع كافة الشرائح المستعدة للمشاركة والمساهمة في هذا الموسم.

8- يجب ان تكون مجالس الحسين عليه السلام منبعاً للفكر والوعي والتحليل العلمي والعمل الجماعي.

9- أن يكون الماضي الذي يستحضره الموالون في أحزان عاشوراء باعثاً لمستقبل أفضل ولتجاوز المشاكل المحيطة بهم.

10- تشجيع الناس على تأسيس المنظمات والمؤسسات العلمية والتعليمية والثقافية والاعلامية والخدماتية ومراكز الدراسات من اجل إيجاد نهضة حضارية شاملة تستمد مبادئها من النهضة الحسينية المباركة.

11- توسيع الخطاب الحسيني وتطويره حتى يكون عالميا وايصال الصوت الحسيني العلوي الإنساني الى كل العالم ومختلف اللغات.

12- التركيز على قيم الوحدة والتسامح واللاعنف ونبذ التطرف والعنف والتعصب، وبيان ان القيم الحسينية هي قيم تدعو الى السلام والرحمة والاعتدال والاخوة والتضامن الإنساني في مواجهة الحرب والفقر والاستغلال.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق