من بين المنجزات الفنية الفريدة في (قصر حياة نبوخذ نصر) هو ما اصطلح على تسميته بأسد بابل.. الذي يعد من الإبداعات النحتية العظيمة في تاريخ الفن العراقي بشكل عام.. والفنون البابلية بشكل خاص. فلو أقيم معرض لإبداعات الفكر الإنساني العالمي لآليت أن يعرض فيه هذا المنجز الإبداعي؛ ليعبّر عن إبداعات الشعب البابلي الأصيلة.. وأروع ما قدّمه للفكر الإنساني من ابداعات.
يتألف هذا النصب البابلي العظيم من كتلة ضخمة جداً من حجر البازلت الأسود اللون والصلب، نحت عليه شكل أسد يطأ رجلاً منبطحاً تحت حجمه الهائل في حالة استسلام تامة.. فيما ارتكز الشكلان على قاعدة ثقيلة من نفس الخامة.
يعد شكل الأسد من أكثر مفردات الطبيعة ظهوراً في الفنون البابلية الحديثة، فقد مُثِّلَ مئة وعشرين مرة على جدران شارع الموكب وعدة نرات في جدارية الملك (نبوخذ نصر) بقصره الجنوبي، وتحولت دلالاته الفكرية من كونه (رمزاً) لقوى الموت والفناء في الفنون السومرية والأكدية إلى كونه قوة كونية حامية للحياة .. وحارسة لشارع الموكب من أعدائه، وتلك هي خلصية الحيوية والتجدد والتحول في بنية الفنون الرافدينية التي اجتازت مسيرتها الحضارية عدة تحولات شملت أساليب التشكيل ودلالات المفردات الرمزية الكامنة في بنية النصوص الفنية على حد سواء.
يُخبئ شعار الدرلة البابلية الحديثة في بنيته العميقة تقابل ضدين غير متكافئين: أحدهما شكل الأسد بكتلته المهيمنة في التكوين بوصفه رمزاً لقوة دولة (نبوخذ نصر) التي انتصرت على أعدائها في كل الوقائع، وشكل الرجل المغلوب على أمره كناية عن جيوش الأعداء المنهزمة أمام اندفاع الجيوش البابلية في شتى البقاع الجغرافية، فالتعبير في كتلة النصب لم يكن نسخاً لأي واقع معطى.. بل كشفاً لحالة الشعب البابلي بما تجتازه من ميول ورغبات ومخاوف، بثه شكلان رمزيان بعد أن أُوّلا من دلالاتهما الطبيعيتين المألوفتين فأصبحا حرين من صيرورتهما ليؤديا فعلهما الدلالي في نسق الفن بمدلولات مضافة للتعبير عن معتقدات شعب (نبوخذ نصر) ومخاوفه، إنه فعل الفن الفاعل بتحقيق التوازن النفسي في داخل كل مواطن بابلي بإذكاء عواطف معينة في سايكلوجيا الشعب وتعد ضرورية في ديمومة سر الحياة بكل إرهاصاتها المتنوعة.
أما خاصية التمثال المزدوج الأسطورية فإنها أبعد من ذلك بكثير، إذ انها تنطلق بدلالته من مسارها الأرضي نحو تعالي الدلالات الكونية، فهي تصر على حضور الإلهة عشتار أجواء الصراع بدلالة قرينها الأسد، أما شكل الرجل فأنه اختزال رمزي للأرضي في تحديه للماورائي ، وتلك قسمة ضيزى ومعادلة خاسرة منذ البداية.
لا أدري من أين جلب الملك البابلي هذه الكتلة الصلبة والثقيلة من حجر البازلت وسلمها بدوره إلى النحات الذي شيد منها شعار بابل الخالد؟، ليست هناك مشكلة في تعرف المكان.. فأمبراطورية (نبوخذ نصر) كانت واسعة جداً وتضم تحت عباءتها العديد من المناطق الجبلية؛ إلا أن الأهم من كل ذلك، هو رقي الوعي الجمالي للفنان البابلي الذي سكب محتواه الفكري المقدس في بوتقة هذه الخامة المتفردة والمناسبة جداً لخصوصية مقولة الدولة البابلية القوية، وتلك هي أهم مواصفات الأعمال النحتية العظيمة في تاريخ الفكر الإنساني.
لم يكن هدف النحات البابلي .. وهو من النحاتين العظام على أرض الرافدين الخوض بالتفاصيل التعبيرية للخطاب الجسدي لشكل الأسد كما فعل ذلك الآشوريون سابقاً، بل رؤيته كانت متصبة على تفعيل سمات التبسيط والإختزال والخطوط الحادة والمساحات النحتية الواسعة وتفاوت مستويات السطح النحتي وتباين ملامسه ؛ كونه كان مهتماً بإنشاء شكل رمزي يمثل (أسدية الأسد) وتلك هي عظمة المنحوتات الرمزية التي وصفها (نيتشه) بأن شأن الفن العظيم: التفكير بالرموز.
ان ارتباط الدلالات الرمزية للنصب البابلي (أسد بابل) بحراك المفاهيم الامبراطورية في بنية المجتمع البابلي بشكل عام، وماكنة الدولة البابلية الحديثة بشكل خاص، وشيوع مرجعياته الفكرية والشكلية التي كثر تداولها في شارع الموكب، وجدارية القصر الجنوبي .. من شأنها أن تؤكد بابلية هذا العمل النحتي الهام في تاريخ النحت الرافديني، وذلك يدحض الرأي القائل: إنه جلب إلى بابل بوصفه غنيمة حربية من خارج العراق.
اضف تعليق