أن فكرة تأطير الإبداعات الفنية.. في بيئتها الزمانية والمكانية المحددة هي من أكثر الأفكار أهمية في الدراسات التحليلية للمنجزات الفنية . فمع ان هذه الآلية أو المنهج لاتنكر البنية الشكلانية للأعمال الفنية وأنظمتها العلائقية المتبادلة التفاعل في (التشفير) عن دلالاتها الفكرية ، الا أنها مهتمة بمنشأية الأعمال الوظائفية بوصفها (ستراتيج) من التفاعل الجدلي .. بين العمل الفني وحاضنته الحضارية التي تُحمّل الشكل محمولاته الفكرية وتحقق نظام العلاقة بين ما يعرف بالتشفير العميق للأشكال والسمات الفنية التي تميزها وتعلن عن دلالاتها التعبيرية.
فحين نحصر عقولنا بالحدود التأريخية للعصر البابلي القديم، ونحاول لملمة شتات منجزاته النحتية، فإننا سنشعر بالغثيان، بسبب عدم اكتشاف عاصمته المركزية (بابل).. التي مازالت طافية في مياه الفرات الجوفية حتى هذه اللحظة بانتظار من يميط اللثام عن منجزاتها الفنية التي تمثل القيمة الأساسية لفن النحت في عصر (حمورابي).
مع مثل هذا الحرج الذي ينتاب الباحث في تأريخ الفن من سمت رأسه حتى أصابع قدميه، فلابد له من الاعتماد في دراسة فن النحت على المنجزات النحتية التي تم استظهارها من مدن العهد البابلي القديم الأخرى التي توزعت على المتحف العراقي ومتاحف العالم الأخرى بصورة غير عادلة في معظم الأحيان.
ولكن ألا تثير مثل هذه الآلية التي تقوم على الحفر في الإبداعات النحتية بسبب اختفاء المركز اشكالية عدم وضوح الرؤية المتكاملة عن فن النحت في هذا العصر العظيم بجسم الحضارة الرافدينية؟، ولفك مغاليق هذا التساؤل المنطقي علينا ان نفكر بمنظومة من المهيمنات الفكرية الضاغطة التي تدخلت في قولبة الخطابات الفكرية وتقنيات الإظهار والأنظمة الشكلية للتماثيل والمنحوتات البارزة بنظام موحد تقريباً في معظم أرجاء الإمبراطورية البابلية. فمع وجود التنوع في أساليب اظهار الأعمال النحتية الا أنه لم يكن أساسياً ولم يصب الجوهر الذي تفردت به المنجزات النحتية.
لم يستطع البابليون في عهدهم القديم كسر السياقات المتوارثة في بنية المنجزات النحتية الرافدينية، إذ أن معظم نتاجاتهم النحتية قدمت خطابات فكرية تناولت مواضيع سابقاتها من العصور الماضية، الا ان ذلك لايعني انهم لم يقدموا شيئاً بهذا الخصوص، فقد فعّلوا شيئاً من التحديث في الخاصية الإستعارية للمفردات البيئية التي تعود إلى بيئتهم الأم، وتأويلها إلى أشكال رمزية جديدة في الأنساق النحتية.
بشكل عام دعت الحاجة الروحية البابليين الى توظيف النحت بوصفه وسيلة لاكتشاف الصور المثالية لآلهتهم ..التي أرّقهم كثيراً تخفّيها في عوالم الوهم بغية انجاح دراما طقوسهم وشعائرهم الدينية . فمع انهم كانوا يواجهون يومياً مظاهر الطبيعة التي عبدوها بذاتها ، وذلك مدعاة ضيق الأفق التأملي لعقولهم، الا أنهم كانوا يصرون على رؤية آلهتهم تمشي على الأرض او تتحرك على سطور الحجر بدلا من استشراقها بعوالم الحدوس العقلية الجميلة، وتلك عظمة انتصار الديانات السماوية التوحيدية قياساً بمحدودية التمثيل القائم على تشخيص القوى المعبودة بأسماء وأجسام بشرية محددة رغم محاولاتهم اعلاء شأنها بعدد من الأشكال الرمزية الملحقة بها.
واقبل قوم (حمورابي) على نحت تماثيل وصور المتعبدين على السطوح البصرية للمنحوتات البارزة ، لتوثيق صور الأفراد في أمكنة أسطورية متعالية عن محدودية الأمكنة الفيزيقية ، إنها الضرورة لبقاء صورة المتعبد في محراب الإله الى اللازمن. فالتمثال والمنحوتة البارزة Relief بالنسبة للبابليين لم يختلف عن وظيفته الطقوسية السومرية والأكدية، فقد بقي أداةً سحرية علاجية للقلق السايكولوجي لكل الأفراد من خطر مهدد عنوانه الفناء وهو نوع من الصراع بين الذات وعوالمها المغيبة.
إننا إذ نُفعّل البحث عن ماهية الخطابات الفكرية الكامنة في الأنسجة البنائية للمنجزات النحتية في دراستنا التحليلية ، فذلك لأن هذه المنظومة من المنحوتات تتكون من أنظمة شكلية تعد بمثابة تجربة إبداعية في تشكيل المضامين المتحركة بشكل مفاهيم في الفكر الاجتماعي فكانت بمثابة ضغط وتكثيف لهذه الأفكار في خطابات التشكلات النحتية لتؤدي وظائفها الأسطورية بوصفها رؤى روحيةً ورموزاً .
ان عمالية الحفر في كتل التماثيل والمنحوتات البارزة في عصر حمورابي تتعمق بتعرف ذلك الكيف الابداعي الذي حلت به الخطابات الفكرية في اوعية الخامات لتحيا في صيرورتها الخاصة جداً . إذ تسامت الخامات بمثل هذه الحلول الى مقام ( الروحي) بعد ان حل بها حلولا . وتلك اشكالية جمالية تتطلب نوعا من الحدس الفكري لنظام العلاقة بين بين قدسية تماثيل الآلهة والمتعبدين من جهة ، وقدسية الخامات المشكلة منها في الفهم الاجتماعي من جهة اخرى .
ونعني بقدسية الخامات هو خاصيتها المتحركة (فوق) طبيعتها… بوصفها (مخابئ) تسكن فيها الأرواح، فارتقت لمثل هذا الحراك من كينونتها بوصفها اشكالا مادية الى التشفير عن قوى مؤثرة كامنة فيها.
في محاولتنا تأسيس عدة للحفر في في أجسام المنحوتات البابلية لابد لنا من فحص عقدة الشكل بوصفه الحامل لمقولة هذه المنجزات الشكلية الذي يعلن عن تلك المفاهيم التي اجتازت الفكر البابلي ليس بمعنى التوضيح وانما بالاختزال والتبسيط والتجريد؛ لابداع منظومات شكلية تخبئ في ذاتها قوتها المثالية وهو ذلك الكيف المتصف بالارادة والوعي والقصد.
توزعت المنجزات النحتية في هذا العصر الذي دام حوالي الخمسة قرون على جنسين هما : التماثيل المجسمة والمنحوتات البارزة… التي شهدت تنوعاً في مواضيعها وخاصية استعارة خاماتها وانظمتها الشكلية ، وسنستعرض في دراسة لاحقة التماثيل بوصفها افضل الوسائل لتمثيل الشخصيات كحالات فردية مهما تجردت من ذاتيتها وسنعقبها بدراسة المنحوتات البارزة لكونها فن الجماهير البابلية.
اضف تعليق