يدرك المتخيل غالبا بوصفه نقيضا للواقعي، فهو يتناقض ويتقاطع معه.. ومسرح هذا التقاطع والتناقض هو الذات مقابل الاخر، والذات تتضمن معنى النفس، وهي تشمل الأفكار الواعية وغير الواعية والعواطف التي تشكل معنى من نحن وكل المشاعر التي جلبت إلى مواضع مختلفة من خلال الثقافة.
السياق الاجتماعي حيث اللغة والثقافة هما محل تجريب ذاتيتنا واعطاء المعنى لخبرتنا بذواتنا وحيث تبني الهوية. وتبعاً لذلك فإنه لا توجد هوة بين الذات والموضوع من حيث المبدأ، ويقوم تفاعلهما على أساس الممارسة التاريخية الاجتماعية للإنسان.
الآخر في أبسط صوره هو مثيل أو نقيض «الذات» أو «الأنا»، وقد ساد بوصفه مصطلحاً في دراسات الخطاب، سواء الاستعماري (الكولونيالي) أو ما بعد الاستعماري في أطروحات النقد النسوي والدراسات الثقافية والاستشراق. والاخر «تصنيف» استبعادي يقتضي إقصاء كل ما لا ينتمي إلى نظام فرد أو جماعة أو مؤسسة، سواء كان النظام قيماً اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية، ولهذا فهو مفهوم مهم في آليات الايديولوجيا. ولعلّ سمة «الآخر» المائزة هي تجسيده ليس فقط لكل ما هو غريب «غير مألوف» أو ما هو «غيري» بالنسبة للذات أو الثقافة ككل، بل أيضاً لكل ما يهدد الوحدة والصفاء. وبهذه الخصائص امتد مفهوم «الغيرية» هذا إلى فضاءات مختلفة، مثل التحليل النفسي والفلسفة الوجودية والظاهراتية وآليات تحليل الخطاب الاستعماري والنقد النسوي والدراسات الثقافية.
يجد مفهوم الاخر توظيفاته في مجالات متعددة لعلّ أهمها الأيديولوجيا والخطاب النسوي والخطاب الاجتماعي. ولعلّ أهم من وظف هذا المفهوم إضافة إلى إدوارد سعيد هو لوي ألتوسير وهومي بهابها وغاياتري سبيفاك. كما لا شك أنَّ كثيراً من الباحثين العرب بدأوا في توظيفه لكشف تحيزات الخطاب وخاصة الاستعماري وما بعد الاستعماري وفي مقاربتهم للغرب.
يرى المعنيون بأمر المصطلح أن معناه يقوم على ثلاثة محاور كبرى:
أولاً: الآخر في أكثر معانيه شيوعاً يعني شخصاً آخر أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، وبالمقارنة مع ذاك الشخص أو المجموعة أستطيع أو نستطيع تحديد اختلافي أو اختلافنا عنها. وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الآخر، وإعلاء قيمة الذات أو الهوية. ويشيع مثل هذا الطرح في تقابل الثقافات خاصة، وهذا ما يسود عادة في الخطاب الاستعماري.
ثانيا: أماّ الآخر «المشهدي» فلا يختلف عن الأول إلا في حالة الذات وتبلورها في مرحلة المرآة عند جاك لاكان؛ فالطفل في مرحلة النمو يحاول دائماً تحقيق صورته المثالية المنعكسة في المرآة في كل مكتمل والسيطرة على جسده. لكنّ لهذا المشهد أثراً تغريبياً إذ إن السيطرة محالة، وبالتالي فإن لهذه الغيرية جانبها التهديدي في صورة الآخر المثيل. ويجد مثل هذا الآخر توظيفه في النقد النسوي والتحديق ونظرية الفيلم بل وحتى الإعلانات التجارية المرئية.
ثالثاً: الآخر الرمزي، وهو عند لاكان وغيره من المفكرين الفرنسيين الآخر بامتياز حيث يرون جميعاً أن «كينونة» المرء لا تتحقق إلا من خلال القدرة على القول لكن هذه القدرة تعتمد على استخدامك نظاماً تمثيلياً (اللغة) يسبق وجودك. وهكذا فإن عرضك لأفكارك الذاتية والكيفية التي بها تمثل ذاتك تتأتى فقط من خلال اللغة التي تسبق دائماً وجودك، وعليه فإنك حال نطقك تكون أصلاً «منطوقا» أو «مكتوبا» مسبقاً.
كيف تقوم العلاقة بين الانا واخر؟
عبر «التمثيل الثقافي» حيث يقوم «التمثيل» بوظيفة التعبير المتواصل؛ إذ ينتج كل تعبير فكرة عما يقوم بتمثيله. ولا يتحدد التمثيل الثقافي بالنص السردي فقط؛ فهو يعيد تشكيل العوالم والمرجعيات الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية. وتتناظر بذلك العوالم النصية المتخيلة بالعوالم المرجعية المتحددة فتتحدد وظيفة التمثيل.
ماهو المتخيل؟
استعير هذا المصطلح من علم الانثربولوجيا وعلم التاريخ الحديث. ويعني: جملة الأحكام المسبقة والجبارة التي يكنها شعب ما اتجاه شعب آخر (أو طائفة ضد طائفة، أو مذهب ضد مذهب أو طبقة ضد طبقة). وقد تمت بلورته كرد فعل على التطرف المادي أو الماركسوي في دراسة التاريخ
وكلمة متخيل تدل على شيء مشكل تاريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن، وهو قابل للاستشارة والتحريك كلما دعت الحاجة إلى ذلك... إن المتخيل هنا عبارة عن شبكة من الصور التي تستثار في أي لحظة بشكل لا واع وكنوع من رد الفعل.
ماهو الفرق بين التخيل والتصور؟
التصور: هو استحضار صورة موجودة سلفا في العقل والذاكرة وعلى الأغلب تأتي مطابقة للصورة الحقيقية الموجودة في الحياة او الواقع. وهو أقرب للواقع من التخيل فالتخيل قريب للخيال وليس الواقع. والتخيل كلمة مشتقة من تخيّل شيئا غير ممكن حدوثه في بعض الأحيان .
في كتابها (العقل المتفوق) ناقشت (بربارة برا ون ) التصور كقوة أو كنشاط حيوي ومهم للإنسان وذكرت أننا نملك هذه القدرة في خلق وإعادة خلق الصور والأشياء والأحداث في عقولنا وبشكل مستمر وحتى في حالة اعتقادنا أنها حدثت في أوقات أخرى وأماكن أخرى وطبقا لرأي (براون) فان التصور يستطيع إعادة خلق الماضي في تفسير كبير مشابه للحقيقة ويستطيع نقله إلى الواقع مع الحالة الانفعالية المرغوبة والتي يمكن إسقاطها أو عكسها للمستقبل أو استحداثها في حل المشكلات وكسب المساعدات الأدائية من خلال استخدام القدرات العقلية .
تستعمل كلمة متخيل، في اللغة بثلاث دلالات على الأقل:
1 ـ كصفة، وتعني ما لا يوجد إلا في المخيلة، الذي ليس له حقيقة واقعية.
2 ـ كاسم مفعول، للدلالة على ما تم تخيله.
3 ـ كاسم، وتعني الشيء الذي تنتجه المخيلة، كما تعني ميدان الخيال.
هناك مجموعة من المقاربات والمنهجيات والتصورات الكبرى التي تناولت المتخيل في الإبداع الإنساني، شعرا ومسرحا وسردا وأسطورة وبلاغة وفنا؛ يمكن الحديث عن المقاربة السيكولوجية مع سيغموند فرويد ، ويونغ، وجان بياجيه، وجاك لاكان ، وكورنيليوس كاستورياديس؛ والمقاربة البويطيقية مع گاستون باشلار وجان بورگوس؛ والمقاربة الأنتربولوجية مع جلبير دوران الذي درس الصور والأساطير في ضوء قراءة رمزية، حيث أثبت، في كتاباته النظرية المتنوعة، بأننا ننتمي إلى عالم الصور والرموز أكثر مما ننتمي إلى عالم الأفكار؛ إلى جانب المقاربة الفلسفية مع جان بول سارت؛ والمقاربة التاريخية مع ألان كوربان ؛ والمقاربة البلاغية مع لوسيان بلاگا الذي درس الاستعارة باعتبارها تجاوزا للواقع نحو عالم المتخيل. وأكثر من هذا، فالاستعارة هي مصدر قوة الصورة، كما أن الصورة أساس المتخيل.
وهناك المقاربة الإبداعية التي تتمثل في كتابات وتصورات ونظريات كل من: مالرو الذي تحدث عن الكتابة المتخفية للمتخيل، والسورياليين الذين تحدثوا عن المتخيل اللاشعوري، وگابرييل گارسيا ماركيز الذي تحدث عن الواقعية السحرية، وزادي سميث الذي اهتم بالمتخيل في إطار التنوع الثقافي، وجلبير كراصيان وماريز كوندي اللذين آمنا بالمتخيل المنفتح على العالم، إلى جانب آخرين، أمثال: باتريك شاموازو ، وإدوار كليصان ، ورافائيل كونفيان ، ومالكوم دو غزال ، وروبرت إدوار وخال تورابولي ، وليندزي كولان ...
في كتابه «من أجل تاريخ للمتخيَّل» يقترح لوسيان بُوَا الاستنجاد بمفهوم «النّماذج الأصليّة»؛ فتاريخ المتخيّل هو تاريخ البُنى الأصليّة. وقد حدّد ثماني بُنى أصليّة قادرة على تغطية ما هو مهمّ في متخيّل منغرس في المسار التّطوّريّ للتّاريخ.
1. الوعي بحقيقة متعالية: يمثّل الاعتقاد في حقيقة غير مرئيّة ومتعالية بنية أصليّة في الفكر الإنسانيّ؛ فالإنسان يحتاج إلى الإيمان بحقيقة مّا مهما تكن هذه الحقيقة متعالية. والغاية من ذلك إعطاء معنى للعالَم وللوضع الإنسانيّ. وإذا كانت هذه البنية الأصليّة تتجلّى في مجال المقدّس باعتقاد الإنسان في «الإله» بمختلف التّجلّيات التي اتّخذها في التّاريخ، فإنّ العصر الحديث –الذي يدّعي نزع الأسطرة عن العالَم- قد أحلّ حقائق متعالية أخرى، مثل العلم والأمّة والعرق والمجتمع الرّاقي... ومن ثمّة، ”فما دام الإنسان إنساناً فإنّه سيبقى مسيّجاً بحقيقة متعالية وسيظلّ يتخيّل دلالات فيما وراء المظاهر“.
2. القرين: الموت والآخرة: إنّ هذه البنية الأصليّة تعكس تصوّراً مخصوصاً للكائن البشريّ؛ فالجسد المادّيّ للإنسان يقترن بقرين هو النّفس أو الرّوح... ومهما يكن من أمر، فإنّ الجسد المادّيّ يردف بجانب لامادّيّ، بل إنّ هذا العنصر اللاّمادّيّ، ذات أو نفس أو روح يُواصل وجوده، وإن فُصِلَ عن الجسد. ولقد حفّزت هجرة هذا القرين إلى خلق تصوّرات أخرويّة متعدّدة.
3. الغيريّة: إنّ الغيريّة بنية أصليّة في الفكر الإنسانيّ، فهي تتجلّى بدءاً بالاختلاف البسيط إلى الغيريّة الرّاديكاليّة؛ فالغيريّة تستند إلى جملة من الاختلافات، سواء أكانت عرقيّة أم جنسيّة أم دينيّة أم سياسيّة. فعبر منطق الغيريّة يرسم الإنسان صورة للآخر المختلف عنه، وهذه الصّورة هي التي تتحكّم في طرق التّعامل معه.
4. الوحدة: تسعى هذه البنية الأصليّة إلى إخضاع العالَم إلى مبدإ موحّدٍ لتحقيق الانسجام وإعطاء معنًى للوجود.
5. تحيين الأصول: يتعرّف الإنسان ذاتَه عبر أساطيره التّأسيسيّة. فللأصول قيمة رمزيّة كبرى لدى الإنسان؛ فهي التي تلقي الجسور بين الماضي والحاضر، وهي من ثمّة آليّة تفسيريّة من جهة، ووسيلة بها تحافظ المجموعة على خصوصيّتها الذّاتيّة من جهة أخرى.
6. استكناه المستقبل: للإنسان توق لاستكناه الزّمن المستقبل. ولعلّ ذلك قد تجلّى في مختلف الأنشطة الرّمزيّة والسّحريّة التي سعى من خلاها الإنسان إلى كشف ما سيحصل في قادم الأيّام.
7. الهروب: يعدّ الهروب بنية أصليّة ثابتة في الفكر الإنسانيّ، ويتجلّى في موقفين أساسيّين، فيكون الهروب، إمّا نحو الماضي بتمجيد زمن ذهبيّ عاشه الأسلاف، وإمّا نحو زمن المستقبل بفضل الطّوباويّات أو الحلم بمجتمع راقٍ ومتطوّر يَعِدُ بالفردوس المفقود.
8. صراع (أو تكامل) الأضداد: تؤكّد هذه البنية آليّة من آليّات اشتغال الفكر الإنسانيّ القائم على الثّنائيّات؛ فالنّهار نقيض اللّيل، والأسود نقيض الأبيض، والنّور نقيض الظّلمة والخير نقيض الشّرّ، وتتجسّد هذه النّظرة المانويّة في الأديان والفلسفات على حدّ سواء.
ويُميّز المؤلّف بين نمطين من أنماط المتخيّل؛ فهناك متخيّل مدرك، يُعاش باعتباره متخيّلاً. فنحن ندرك عند مشاهدتنا لشريط سينمائيّ أنّنا في عالَم متخيّل ينتهي بانتهاء الشّريط؛ وهناك متخيّل أساسيّ هو متخيّل مدرك، باعتباره حقيقةً أكثر واقعيّة من الواقع المتعيّن.
اضف تعليق