ادراك العقل هو ذاته ادراك نفسي بفارق ادراك العقل لموضوعه معرفيا وادراك النفس لموضوعها سلوكا ذاتيا.. ولا فرق بينهما من حيث تراتيبية مركزية العقل للإدراك على ثانوية ادراكية النفس بالوعي. ما تدركه النفس مصدره إدراك مرجعية العقل. ولا يدرك العقل من حقائق الواقع ما لا تدركه النفس لذات الوقائع...
نقلا عن لايبنتيز (الاساس العقلي يجعل فكرنا لا يقبل افكارا متناقضة، والنفس ايضا ترفض إدراك متناقضين معا. والاساس الانطولوجي او الوجودي يجعلنا نقبل الهوية في الاشياء. والا لما كانت موجودة على الحقيقة) 1
تعقيب
- ادراك العقل هو ذاته ادراك نفسي بفارق ادراك العقل لموضوعه معرفيا وادراك النفس لموضوعها سلوكا ذاتيا.. ولا فرق بينهما من حيث تراتيبية مركزية العقل للإدراك على ثانوية ادراكية النفس بالوعي. ما تدركه النفس مصدره إدراك مرجعية العقل. ولا يدرك العقل من حقائق الواقع ما لا تدركه النفس لذات الوقائع والاشياء بنفس آلية تجريد التعبير عنه بالوعي القصدي السلوكي.. إدراك العقل صمت صوري لا يلزم عنه التنفيذ بينما يكون إدراك الوعي القصدي ملزم الوصول الى هدف معيّن.
- الوجود الانطولوجي الحقيقي للشيء يمثّل هويته بدلالة صفاته الخارجية. وبدلالة أحدهما ندرك الاخر. فحقيقة الوجود الانطولوجي للشيء هو هويته الحقيقية التي هي ليست شرط ادراكه بالتمام. فالصفات الخارجية للشيء تدرك حسيا بسهولة الادراك لا كما يصعب إدراك ماهية ذلك الشيء او جوهره. الهوية لا تخلع التعيّن الوجودي على الشيء المدرك بل تكتسبه منه. بتعبير آخر الهوية يحددها إدراك الصفات الخارجية ولا يعينه الوجود الاستقلالي للشيء انطولوجيا بمعزل عن إدراك الذات او النفس.
قول لا يبنتيز (العقل لا يجعل فكرنا يتقبّل متناقضين) في وقت واحد. بمعنى العقل يستقبل الفكر ذو المعنى الاحادي الصادق الذي لا يتقبل ملازمة نقيضه الكاذب. أن العقل يدرك الاشياء بافكار فطرية مسبقة عن الواقع الذي يعيشه ومصدر زرع الافكار الفطرية بالعقل المفكر هو قدرة الهية حسب لايبنتيز.
صدقية الفكرة التي يتقبلها العقل عن موضوع معين او شيء يرفض الفكرة الزائفة التي تنفي صدقيته التي من المحال ملازمة إدراك العقل فكرتين متناقضين يحملان نفس الموضوع. مثلا يتقبل العقل صحة قولنا الشلال ماء منحدر من اعلى ولا يتقبل القول الشلال ماء جاري مثل نهر والخلط الارتباطي في جمع التعبيرين خطأ يسمى الثالث المرفوع. بمعنى التعبير عن شيء انه حقيقة حسية عقليا لا يقبل بنفس الوقت ان هذا الشيء لا حقيقي. فالعقل الادراكي يحمل صحة المدرك الذي له معنى صادق ولا يتقبل الزائف الكاذب.
مفهوم زراعة الافكار الفطرية بالدماغ قال به مجموعة من الفلاسفة رغم علمهم أن السبب وراء مقولة زرع الافكار الفطرية بالعقل هو سبب ميتافيزيقي في علّة مصدره. يحتمل الكثير من عدم الصواب والوثوق به علميا. الادراك التمثلي هو إدراك صورة الشيء في وجوده الانطولوجي وليس في إدراك العقل له معرفيا.
شوبنهاور نفهم من عنوان كتابه الشهير (العالم تمثّل وارادة) يذهب فيه ان الارادة في تمثل الشيء هي مصداقية نفي ان يمثُل الاحساس الصوري للشيء هو الذي يعين ارادة معرفته. وهو يختزل هذه العلاقة قوله (العالم تمثّل وارادة) بمعنى اسبقية تمثّل الشيء هو الذي يملي على الارادة التصرف بضوء هذه الاسبقية التراتيبية بين التمثل والارادة. هنا شوبهاور ينفي الرأي الفلسفي المجمع عليه منذ عصور من تاريخ الفلسفة ان الارادة هي وعي قصدي مصدره العقل او النفس يتوجه نحو تحقيق هدفه. بمعنى الارادة تسبق رغبة معرفة الشيء.
النزعة الفطرية والمكتسبة
يوجد فرق كبير بين طبيعة العقل المبرمجة على قابلية التعلم واكتساب المعرفة، وبين القول العقل يمتلك قابلية الادراك بمعرفة فطرية عن مدركاته. ما يرثه الانسان بالفطرة هو شبكة معقدة من كروموسومات الجينات الوراثية المتداخلة التي أثبتها العلم ولا مجال نكرانها. لكن طبيعة العقل الفطرية لا تشمل وراثة الخبرات المكتسبة عن البيئة والمحيط. حتى اللغة هي جوهر مكتسب وليس فطريا بالوراثة فالطفل يولد ولا يعرف يتكلم لكنه يمتلك استعدادا فطريا لتعلم اللغة من الاسرة والمجتمع.. اما إدراك صورة الشيء في هويته يكون ماديا حسيا وليس فطريا معرفيا. هوية اي مدرك يحددها الفكر المعرفي الحسي او التجريبي عنه ليتم ادراكه انطولوجيا.
طبعا أحد أبرز الفلاسفة الذين يؤمنون بالأفكار الفطرية للعقل ديكارت ولايبنتيز وكانط واشد الرافضين لها جون لوك وديفيد هيوم وراسل وكل فلاسفة المادية المنادين أن كل أفكار العقل مستمدة حسيا تجريبيا من الواقع. وحتى بعض فلاسفة المثالية لا يؤمنون أن العقل مزود بأفكار فطرية منذ الولادة.
فالجينات الفطرية الموروثة هي صفات كروموسومات وراثية لتحديد الهوية البيولوجية داخليا وليس لتحديد الهوية الانطولوجية التي يحتويها الواقع كمتعّين. ولا يرث الطفل افكارا ادراكية لفهم ومعرفة وتفسير الوجود من حوله لكنه يرث استعدادات فطرية لتعلم كل شيء من حوله ويعايشه بالخبرة والتعلم.
أجد ليست المشكلة في امتلاك العقل افكارا فطرية ام لا يمتلكها، المشكلة اراها أن إدراك العقل للأشياء هي استعداد قبلي يحمل افكارا عن تلك الاشياء مكتسبة عن تجربة الوعي بالذات والمحيط، لكن ليس مصدرها الفطرة الجينية الموروثة بل مصدرها التجربة واكتساب الخبرة المتراكمة من العائلة والبيئة والمجتمع والتعلم الدراسي.
العقل لا يدرك الاشياء على حقيقتها ما لم يكن مزودا بأفكار قبلية مكتسبة وليست فطرية عن تلك الاشياء. والفرق بين الافكار القبلية انها نتاج تراكم خبرة مكتسبة من الواقع بالتجربة. اما الافكار الفطرية فهي افكار قبلية ليس مصدرها المعرفة المكتسبة سابقا من المجتمع، وانما الأفكار الفطرية عن الاشياء التي مصدرها هبة سماوية معطى من عند الخالق كهوية صفاتية وهي ليست من الموروثات الجينية التي يولد الانسان مزودا طبيعيا بها.
لذا ما هو خارج عن فطرية موّرثات الجينات الى ما يسمى معارف فطرية قبلية ليست مكتسبة عن المحيط سابقا امر يحتاج البرهنة الصعبة عليه أن الافكار القبلية عن الشيء فطرية.. مثلا ان تضع هاتف نقال (موبايل) امام شخص لم يسبق له ان رآه ولا سمع به ولا قرأ عنه وتسأله ما هذا الشيء الموضوع امامك فمن المستحيل ان يمتلك الاجابة الصحيحة ولو كان يمتلك افكارا فطرية عن كل شيء لأجاب على السؤال بسهولة. لكن لو كان يمتلك افكارا قبلية مكتسبة غير فطرية عن الهاتف النقال عندها تتوفر لديه قابلية الاجابة الصحيحة عن تسميته الهاتف.
الافكار الفطرية لدى كانط هي قابلية العقل بالتفكير المنهجي السليم بما لم يكن اكتسبه سابقا معرفيا. أما فهم الافكار الفطرية هي الذخيرة التي يولد الانسان مزودا بها كاستعداد معرفي لأشياء لم يكن يعرف عنها شيئا هي وإن كانت أقل وطأة في عدم التصديق العقلي لها إلا أنها تلتقي مع الفهم الفطري المنهجي المزروع بمعرفة ما لم يسبق له به أدنى معرفة فكلا الافتراضين حول الافكار الفطرية تحتاج الى برهان يقين التصديق بها بدلالة إدراك الواقع منطقا عقليا.
بتلخيص العبارة الافكار القبلية عن الشيء المكتسبة تختلف عن الافكار الفطرية عنه فهذه الاخيرة لا برهان يقيني يؤكدها. الوجود الانطولوجي يجعلنا نتقبل الهوية الحقيقية للشيء هي تحصيل حاصل أن الاشياء لا توجد انطولوجيا من غير ملازمة هويتها لها التي هي صفاتها المادية الخارجية. وقول لايبنتيز الواقع الانطولوجي والوجودي للأشياء يمنحنا معرفة هوية ذلك الشيء بديهة معرفية لا تأتي بشيء يؤخذ به لم يكن بديهيا يمّثل تكوينها. ادراكنا الصفات الخارجية لشيء يعني امتلاكنا معرفة هويته ولا يشترط معرفة الماهية ولا الجوهر بذاته لتحديد هويته.. فالهوية لا يحددها ما هو غير مدرك. بمعنى الافكار الفطرية لا تحدد هوية الشيء بل الواقع الموجودي المعيشي خاصيته استدلال هوية الشيء.
جدل المطلق والنسبي
يطرح أحد الفلاسفة التالي: (الوجود المتغير الذي يعيشه البشر يمثل ذلك "المركب" الناتج عن الجدل بين المطلق والنسبي) 2.
من وجهتي النظر الفلسفية والفيزيائية العلمية رغم اختلافهما المنهجي، في شقيهما المثالي والمادي، لا يشيران لحدوث جدل بين ما هو نسبي مع ما هو مطلق. يتخلق عنهما مركبا ثالثا. ما هو هذا المركب الثالث وماهي ماهيته وصفاته؟ فهي اسئلة لا اجوبة لها. ولو نحن تركنا الجدل الديالكتيكي القائم على وحدة تناقض الاضداد ضمن الوحدة الكلية المتجانسة في الماهية والصفات لشيء او ظاهرة. نجد الجدل يحصل ضمن شروط وضوابط هي خارج سيطرة رغبة الانسان لها وخارج سيطرته عليها منها:
- الجدل او الديالكتيك يحصل ضمن شروط ومواصفات منها تساؤل جوهري هل المجانسة النوعية الطبيعية (الجوهر والصفات) التي تجمع النسبي والمطلق متوفرة هي عامل توحيد الدخول في معترك جدلي بينهما تقود الى تناقض بين قطبين وبغير هذه الوحدة التجانسية التي تجمعهما لا يحصل جدل ديالكتيكي متضاد يؤدي بنا الى حركة ثم تطور ثم الى ناتج مركب ثالث؟ طبعا النسبي محدود يمكن ادراكه والمطلق لانهائي ولا محدود لا يمكن ادراكه فكيف يكون التضاد الجدلي بينهما؟ والوجود المتغير للأشياء ليس حصيلة وناتج جدل النسبي المحدود بمواصفات خارجية يمكن ادراكها، تجعله اي النسبي بعيدا عن اللقاء بالمطلق الذي هو مفهوم ميتافيزيقي لانهائي ولا محدود بصفات يدركها العقل.
- سبق لسورين كيركجورد في رده على جدل هيجل المثالي على مستوى الفكر قوله، أن هناك انواعا من جدل زائف غير حقيقي، اي لا يمكن تحققه. رغم أن سورين كيركجورد لا يؤمن بالجدل المادي الذي قال به ماركس ولا بالجدل المثالي غير الصوفي الذي قال به هيجل. بل هو يؤمن بجدل تاريخي ذاتي تتخلله طفرات نوعية. ويؤمن بصوفية دينية تجعل العقل يقفز مغادرا ماديته العقلية الى فضاء روحي ايماني ديني مصدره القلب وليس العقل. ومع كل هذه النزعة المادية المشبّعة كان تصنيف سورين كيركجورد الاب الروحي للوجودية الحديثة التي تنكر العلاقة الصوفية.
عليه أجد أن فرضية إمكانية حصول جدل بين نسبي ومطلق يحتويهما الواقع المتغير الذي نعيشه في تطور الحياة من حولنا. هي فرضية زائفة لا يمكن حدوثها. لا توجد وشيجة تجمع النسبي والمطلق الدخول في علاقة جدلية بينهما. بسبب اختلاف المجانسة النوعية بينهما من جهة، وبسبب ان المحدود النسبي متناه لا يتداخل مع مطلق بذاته مقفلا على نفسه.
- النسبي محدود يمتلك مواصفات امتلاكه الماهية والصفات الخاصة به التي يستطيع ادراكنا العقلي له يحدّه بها انه متناه، والمتناهي على خلاف المطلق الذي لا يدركه العقل لأنه لانهائي ولا محدود. هذا التفريق بين المحدود النسبي والمطلق الكوني يجعل من العبث القول هناك نوع من جدل يجمعهما.
- الفرق الاخير اوجزه ان النسبي المتناهي هو صفات خارجية يمكن على الاقل ادراكها دونما حاجة التفتيش عن جوهر يحتجب خلفها، عليه يكون النسبي المحدود مصطلحا متفقا الاجماع عليه، بينما يكون المطلق مفهوما ميتافيزيقيا يفتقد لأية دلالة تشير عليه وتثبته سوى أن كل حقيقة تتحقق عن طريق الوصول لمطلق هي مجرد نظرية أو مرحلة ستصبح في وقت لاحق نسبية. المطلق مفهوم غير حقيقي ادراكيا سوى في تداوله نظريا على صعيد تجريد الفكر والمعرفة فقط على أنه طريق توالي الحقائق العديدة بغية الوصول الافتراضي له.
- أعود تأكيد خلاصة حقيقية جدل النسبي الزائف مع المطلق الميتافيزيقي، فيصبح الحال معنا، ان كلا المفهومين المتضادين بين الجدل المثالي والجدل المادي كلاهما افتراضان زائفان. حيث لا يمكن أن يتوفر النسبي بمجانسة نوعية بالماهية والصفات اللقاء مع مطلق يجب ان يكون بالضرورة يحمل مجانسة نوعية بالماهية والصفات هي ذاتها المتوفر عليها النسبي لكي تحصل رابطة جدل بينهما.
سبقت لي الاشارة ان النسبي هو مصطلح متفق عليه انه متناه محدود متاح للعقل ادراكه. اما المطلق فهو مفهوم غائم ميتافيزيقي لا يقبل الادراك العقلي ولا تحده مواصفات نسبية تجعل منه محدودا متعينا بخواص إدراكية.
صحيح مآل كل نسبي التطور الحركي الذي يقود الى حقيقة افتراضية على طريق مطلق لا تحده التغييرات النسبية بحقائق يمكن دحضها لاحقا. الحقائق النسبية لا تمثل أدنى درجات الوصول الى الحقيقة المطلقة التي هي افتراض وهمي تحفيزي لإشباع رغبات الحقائق النسبية دائمة التغيير والحركة ذاتيا.
اللغة (صوت) مادي
الفكر واللغة جوهران متلازمان يشتركان بصفة التجريد فكيف لنا تبرير هذا التناقض مع قول برجسون " اللغة على وجه الخصوص هي مادية (أصوات) يمكن التعرف عليها لذاتها من حيث أنها حقيقة مادية ".
الصوت فيزيائيا لا يمكننا تحديده ماديا بصفات مادية معروفة، واللغة كصوت ذي دلالة تعبيرية عن معنى قصدي، هي تجريد في تعبيرها عن أشياء. وليست اللغة مادة بذاتها، ولا تكون اللغة هنا جزءا من مادة مدركة حسّيا بل تكون جزءا من لغة تجريد إدراكي للمادة في موضعتها الانفصالية عنها.
وتجسيد اللغة للفكر في التعبير عن معناه المضموني لا يجعل من كليهما اللغة والفكر مادة بإكتسابهما صفة تجريد الصوت مدركا بذاته وهو خطأ لعدم إمكانية إدراكنا الصوت مجرّدا عن معنى دلالته ألماديّة لغويا. الفكر لا تحتويه المادة بمقدار ما تحتويه لغة التجريد في تعبيرها عن المادة. اللغة صوت يمتلك معنى قصدي مفهوم تواصليا.
وفي حال تأكيد صوابية خطأ مقولة هنري برجسون أن تكون اللغة خاصّية مادية بالصوت المدرك لوحده فهذا يقودنا التسليم لخطأ أكبر منه تجاوزناه هو صحة إمكانية جواز التفكير من دون لغة تصورّية تمثّلية للأشياء.
فالمادة غير العاقلة لا تدرك مادة أخرى تجانسها الخواص التعريفية ماديا معها من غير تداخل تفكير اللغة ألتجريدي التوسيط بينهما لتحقيق تكامل معرفي بينهما اذا تطلبت الحاجة الانسانية..
عليه تكون اللغة كأصوات تعبيرية عن معنى مادي مقصود هي تجريد مادي وليست مادة مدركة لوحدها. تجريد اللغة في التعبير عن موضوع مدرك عقليا يفقدها خاصّية التعبير كأصوات وأبجدّية مكتوبة تعبيرية. وتنتفي عن ألمدركات حينذاك صفة اللغة التي هي خاصية تعبير فكري تجريدي عن المادة والأشياء في وجودها الواقعي.
الوجود بموجوداته الطبيعية التي تحكمها القوانين الطبيعية الثابتة هو وجود مستقل سواء أدركه العقل أم لم يدركه، وسواء تم تعبير الوعي بالفكر واللغة عنه أم لم يتم، فالموجودات المادية تبقى موجودات مستقلة في العالم الخارجي.
التسليم بمقولة اللغة مادة بدلالة الصوت، عندها يصبح لا غرابة أن نجد اللغة كما يعبّر عنها أحد الفلاسفة المثاليين "هي تعبير كلّي يقوم مقام الواقع بكامله.". تماشيا مع هذا التعبير الافتراضي الخاطئ لا يمكننا معرفة الواقع في حقيقته المادية عندما نحاول التعبير عنه بمادة لغوية متموضّعة فيه تكوينيا وليست لغة إدراك تجريدي منفصلة عنه، وليس من الصحيح أن تمتلك المادة تجريدا لغويا ما يعني إمكانية أن تعي المادة ذاتها وتعي غيرها من الماديات الأخرى ليس بدلالة تجريد اللغة الصوتية بل بدلالة تجريد لغة المادة الموهومة التي أصبحت هي ميزة المادة ذاتها في كثرة أعدادها واختلافاتها وتنوّعاتها التي يعجز حصرها.
المادة غير العاقلة لا تدرك ذاتها ولا تدرك غيرها بلغة خاصة بها. المادة كي تكون وجودا يدرك محيطه تحتاج اللغة ولا تحتاج ذاتية وجودها الخاص المستقل عن ادراكها... وهذا أمر ليس محالا على صعيد الإدراك العقلي وحسب وإنما محال على صعيد إلغاء خاصّية التجريد اللغوي عن مدركات اللغة التعبيرية التي هي في حقيقتها تعبير عن مدركات عقلية.
بوضوح العبارة اللغة لا تمتلك أسبقية الإدراك العقلي للأشياء بل يسبق تعبير اللغة وجود الشيء او موضوع تعبير اللغة عنه، كما أن المادة لا تمتلك لغة تعبير لا عن نفسها ولا عن غيرها من الموجودات المتعالقة في الوجود معها مجردة عن موضوع مدرك بدلالتها. المادة تدرك بدلالة الحس وتعبير اللغة ولا تدرك المادة بلالة مادة اخرى لا وسيلة إدراك تمتلكها.
المادة لا تمتلك صفة الإدراك العقلي كي يتاح لها امتلاك لغة، لذا تكون ميزة الانسان النوعية عن جميع الكائنات في إمتلاكه اللغة.. اللغة هي إدراك كلّي لأشياء وموجودات لا حصر لها لكن لا يستطيع الانسان جعلها لغة استيعاب تقوم مقام الواقع بأكمله. عالم الانسان ألإدراكي هو ما تستطع أللغة ألإحاطة به والتعبير عنه، وهذا الإدراك اللغوي يبقى ناقصا في محاولة جعل مدركات الحس العقلي إنابة اللغة أن تكون هي كل عالمنا الواقعي الذي تدركه.
إدراك وتعبير اللغة عن موجودات الاشياء في الطبيعة وفي عالمنا وفي الانسان لا يجعل من اللغة التي تستوعب التعبير عن العالم (تجريديا) هي التعويض المكافئ للموجودات في واقعها المادي الطبيعي او في واقعها الافتراضي كموضوع مستمد من الخيال.
لا يسعنا التعبير عن هذا المأزق أكثر من قولنا إننا يمكننا التعبير عن اللغة بلغة أخرى تجانسها الماهية والصفات النحوية والقواعد الصوتية، لكننا لا نستطيع فهم الواقع المادي الذي تموضعت اللغة فيه ادراكيا ومعرفيا بتعبير لغة لم يعد يمتلكها العقل ولا يستطيع تصنيعها بل يمتلكها الواقع المادي للأشياء في محاولته توصيل فهم العقل له وليس العكس فهم العقل للواقع.
ربما يذهب البعض في شطط أني أعبّر أن تكون اللغة مادة متموضعة في الاشياء المدركة تكوينيا، بل ما أؤكد عليه تبقى اللغة في كل أنواع الإدراكات هي تجريد تصورّي انفصالي تمثّلي في التعبير بمعزل تداخلها تكوينيا مع المدركات الحسية. كل شيء موجود في الواقع يحمل معه لغة الإدراك التي يتواصل بها مع إدراك العقل له. ولا تمتلك أيّة مادة لغة الإدراك التواصلية مع غيرها من المواد والاشياء.
إن الحقيقة التي يراد العبور من فوقها أن اللغة تبقى تجريدا تعبيريا، والمادة تبقى واقعا لإدراك هذا التجريد اللغوي، واللغة المتموضعة بالأشياء هي لغة تجريد يحتويها الموجود المادي أنطولوجيا لكنه يبقى تجريد اللغة منفصلا ماهويا عن المادة كتجريد لغوي معبّرا عن المادة منفصل عنها.
اللغة تجريد التعبير عن المادة ولا تدخل المادة تكوينيا متموضعا بها. أما أن يكون الادراك الحسي هو صورة الشيء في تعبير الذهن عنه أم هو اصل ذلك الشيء في حقيقته الكلية فهو موضوع آخر سبق لي الكتابة عنه.
" التفكير والكينونة امر واحد" بارمنيدس 600 ق.م
أجد ديكارت عّبر عن نفس المعنى الذي قال به بارمنيدس، حينما اعتبر العقل جوهرا ماهيته التفكير الذي يزودنا بالمعرفة، ونجد ديكارت يعبر عن ذات المعنى في الكوجيتو (انا افكر اذن انا موجود) معتبرا خاصية التفكير الانفرادي يمنح الذات كينونتها الموجودية.
وهنا اجد بمقدار ما تعطي كينونة الموجودات من غير الانسان محفزات تنشيط التفكير الانساني في موضعته اشياء الطبيعة ومحاولة معرفتها. بمقدار ما نجد التفكير يمنح كينونة الموجودات حيوية حضورها الانطولوجي الحقيقي.
التفكير خاصية انسانية ينفرد بها عن غيره من مخلوقات وكائنات الطبيعة، ومعنى ان يمتلك الانسان التفكير هو انه أصبح يمتلك لغة التعبير عن تفكيره. وبذا يكون التفكير يمنح الانسان المفكر ميزتين هما اولا اعتزاز الانسان بذاتيته المتمايزة التعالي الترسندتالي على مدركاتها. وثانيا يمنح تلك المدركات الموجودية فاعليتها الحيوية بالحياة. ويكنني الاستعانة ببعض مقولة لروسو بعد التداخل غير المخل بها هو اننا لا نصبح بشرا الا بعد امتلاكنا لغة التعالي على الطبيعة.
المصادر:
اضف تعليق