تقُاس قوة الدولة بقدراتها وإمكانياتها للحفاظ على مصالحها، ويُطلَق على الدول غير القادرة على حماية مصالحها بالضعيفة، متى تكون الدولة قوية ومتى يتم العكس، يتعلق هذا الأمر بإدارة الدولة ومؤسساتها وصناعة القرار، يُضاف الى ذلك القيادة المتميزة، واستثمار قدرات الدولة والشعب لتحقيق أقصى قدرة ممكنة لمضاعفة قوة الدولة، إذاً يشترك الجميع في تحقيق هذا الهدف، ولكن وفق تخطيط حازم، مع الاستفادة من تراكم الخبرات على مر العصور.
يحدث هذه الأيام كلام عن اتفاقية (خور عبد الله) بين العراق والكويت، وتداولت وسائل الإعلام ومواقع الاتصال الاجتماعي خبر مصادقة مجلس الوزراء على هذه الاتفاقية، وبعض التعليقات تؤكد أن هناك تفريطا بالسيادة العراقية، فيما يؤكد آخرون أن هذه الاتفاقية موقعة من قبل النظام السابق منذ 1992، لكن هناك من يقول أن الحكومات اللاحقة غير ملزمة بتنفيذ اتفاقيات تثلم السيادة الوطنية، وتمنح الأرض الى دولة أخرى، كما يحدث في هذه الاتفاقية التي تعطي جزء من أرض العراق للكويت كما نقرأ ذلك في وسائل الإعلام.
من المعلوم أن العراق لا يتمتع بمنفذ على البحر، مع ان موقعه الجغرافي مهم عالميا وإقليميا، وهناك مزايا يتمتع بها العراق، تجعله محط أنظار القوى الكبرى وحساباتها، خاصة أنها تخطط وتعمل على مدار الساعة، لتحمي مصالحها القومية في شتى المجالات، من هذه المزايا، موقع العراق الذي يتوسط منطقة ساخنة ومهمة في العالم، بل تعد من أهم مصادر الطاقة عالميا، ناهيك عن الموقع الهام للعراق، وإسهامه في تحقيق التوازن الدولي بين القوى المتصارعة، لحماية مصالحها، ولا شك أن شراهة الدول الكبرى وبعض الدول الإقليمية قد تدفعها للطمع بالأرض العراقية، وربما لا يبتعد هذا التوصيف عمّا يتعلق باتفاقية خور عبد الله.
مطلوب رؤية وطنية متوازنة
إن ما يستجد من ظروف حول هذه القضية، قد تضع الحكومة العراقية الراهنة في موقف حرج، لاسيما أن الاتفاقية موقَّع عليها سابقا والأمم المتحدة أحد أطرافها، ومع ذلك إعادة النظر بهذه الاتفاقية وغيرها أمر وارد، خاصة أنها حدثت في ظروف معروفة، وأن الحكومة الحالية غير ملزمة بها، ولابد أن تتمتع القيادة السياسية برؤية وطنية أصيلة، قادرة على تحقيق التوازن بين المصلحة الوطنية وإدامة العلاقات المتوازنة مع دول الجوار والعالم، لكي تبقي العراق في منأى عن التمحور مع قوة ما ضد قوة أخرى، مع العمل الجاد لجعل المصالح الوطنية وخاصة السيادية منها بمثابة الخط الأحمر الذي لا ينبغي تجاوزه تحت أي ظرف قديم أو مستجد، ومن ذلك ما يحدث اليوم بخصوص هذه الاتفاقية التي تلحق الظلم بالعراق.
كذلك من الغرابة بمكان أن تتم مثل هذه الأمور من دون إطلاع الشعب عليها بشكل تفصيلي، ثم لماذا يُثار هذا الأمر في ظروف عسيرة كالتي يجتازها العراق الآن، وهو يسعى للقضاء على داعش، ويعاني من أزمة مالية متفاقمة، ومع الإقرار بصعوبة الوضع العراقي الراهن، إلا أن الرؤية الوطنية المتوازنة ليست عصية على التحقيق، وليست مستحيلة، خاصة اذا توافر لدى قيادته، الإيمان الحازم والرؤية الإستراتيجية التي تمكنها الحفاظ على المصلحة الوطنية وعدم التفريط بالسيادة والأرض، والموارد النفطية وسواها، حيث يشكل خور الزبير بحسب خبراء عراقيين منفذا للعراق على البحر.
على أن تبقى سياسة العراق مع دول الجوار والعالم، قائمة على مبدأ الحوار، مع الإبقاء على توازن المصالح قائما، وقد يرى آخرون أن هذا تحقيق هذه السياسة المتوازنة لا يتعلق بشخصية سياسية عراقية دون غيرها، إنما الأمر يتعلق بسياسة عامة للدولة، وهو رأي نتفق معه، ولكن حضور الشخصية القيادية وتأثيرها ورؤيتها، له أبلغ الأثر في توجيه الرؤية السياسية الوطنية، وجعلها فاعلة وقادرة على توطيد مكانة البلد وحماية مصالحه، فضلا عن السياسة البعيدة المدى للدولة، والتي ينبغي أن تجعل المصلحة الوطنية في قمة أولوياتها.
الكعكة التي تقاسمها الأغراب
مثل هذه السياسات المتوازنة، تحتاج الى رؤية متوازنة، مدعومة بالحزم، وعدم التفريط بكل شيء له علاقة مباشرة بالسيادة، كما هو الحال مع الاتفاقية التي يُثار حولها جدا كبير، يصل الى درجة التفريط بمصلحة الدولة والشعب، ترى هل يؤدي السياسي العراقي دوره في الحفاظ على المصلحة الوطنية، ويجعل منها خطا أحمر بالفعل؟، السؤال المطروح، أين هو موقع القائد السياسي العراقي مما يحدث على الأرض، هل هو مع شعبه ووطنه، وهل يمتلك الرؤية السياسية الوطنية المستقلة، القادرة على وضع حد للأطماع والمصالح الدولية والإقليمية التي تتكالب على البلاد من كل حدب وصوب؟، حتى وصف كثيرون العراق بـالكعكة التي تقاسهما الأغراب الطامعون فيما بينهم، إلا أهلها، وهل فعلا هذا هو واقع حال العراق في ظل حالة التشرذم التي يعانيها؟، أسئلة تحتاج الى إجابات وافية، ينبغي أن يجيب عنها القادة السياسيون في الأفعال وليس في الأقوال التي تعني شيئا، فيما الأفعال تعني شيئا مختلفا مضادا.
هل ما يجري حول المصلحة الوطنية العراقية يحدث بشكل متعمَّد ومخطط له، أم هو ناتج حتمي للمزاجية السياسية والعشوائية، وعدم وجود خطوط ثابتة ومبادئ راسخة تحمي البلاد من التفريط بحقوقها خاصة السيادية منها، في الإجابة عن هذه التساؤلات، لابد من القول أن العراق يعاني من هشاشة واضحة في إدارة شؤونه السياسية، خاصة أن تجربة قادته السياسيين لا تزال طرية، مقابل تمرس كبير للدول الكبرى والإقليمية على كيفية قضم مصالحها، من لحم ودم الشعب العراقي، ممثلا بخيراته وثرواته المادية والمعنوية، التي أصبحت محل نهب وسلب من لدن هذه القوى المختلفة، وهو نهب لا نظير له في التاريخ العراقي المنظور او القديم، تدعم هذا الواقع المؤلم ظروف سياسية تبدو قاهرة تحاصر العراق، بل كأنها غير قابلة للمعالجة، بسبب ضغط الصراعات الدولية والإقليمية التي فُرضت على العراقيين، وهم الآن يخوضونها بالنيابة عن المتحاربين الكبار والصغار معا، لتلحق بهم أفدح الأضرار، لاسيما أن عوامل عديدة تزيد من مشكلات العراقيين في الداخل والخارج على حد سواء.
مؤسف ما يحدث حقا، لاسيما ما يتعلق بالمصلحة الوطنية للعراق، ومؤسف أكثر أن يتعامل القادة وصناع القرار ومعظم العاملين في الميدان السياسي، مع هذا الجانب المهم بلا حزم، علما أن هذا الواقع الذي يتوزع على جانبين، أحدهما خفي، والآخر واضح وضوح الشمس، يتطلب تعاملا سياسيا وطنيا حاسما، من لدن قادة سياسيين مؤمنين بالشعب والوطن، ينطلقون في تعاملهم القوي مع الصعوبات الكبيرة التي يتعرض لها العراق، من قاعدتهم القوية التي يجب أن ترتكز على الشعب أولا، بمعنى اذا كان السياسي مقنعا للشعب كله وحليفا له، فإنه قادر على إقناع الجميع بالرؤية السياسية الوطنية التي تحترم الآخرين في ظل سياسة عدم التفريط بالمصلحة الوطنية.
اضف تعليق