وسمتْ المركزية مرحلة مهمة من المراحل السياسية في تاريخ العراق، وانعكست آثارها السيئة على الوضع السياسي والاقتصادي وعلى الحياة الاجتماعية في عموم العراق، فالمركزية بحسب المختصين هي أسلوب إداري يؤدي إلى تجميع السلطات بيد عدد محدود من الأفراد فيما لو تحدثنا عن منظمة ما، أما معناها على مستوى الإدارة العامة فهي بمثابة أسلوب من أساليب نشاط الدولة، تعني على المستوى السياسي تركيز السلطة في شخص الحاكم، وعندما يتعلق الأمر بمؤسسة ما أو وزارة فإن المركزية تعني تجميع الأمور الإدارية بيد الوزير والعاملين معه مع عدم استقلال الوحدات الإدارية في مجال اتخاذ القرارات الإدارية منها بعيداً عن السلطة المركزية في الأقاليم ببعض النشاطات الإدارية حسب توجيهات الحكومة المركزية.
وتبعا لهذا التعريف أو التفسير، فإن الدولة ممثلة بجهازها الإداري في المركز وفروعه خارج المركز تقوم بمباشرة نشاطاتها وتقديم خدماتها إلى المواطنين كافة من دون استثناء في بقاع الدولة كافة، عن طريق موظفيها الذين يتم تعيينهم من قبلها للقيام بمختلف أوجه النشاطات، وهم في ممارستهم لتلك الوظائف يخضعون لرقابة وتوجيه الجهة الأعلى في السلم الإداري، وينتج عن ذلك خضوع الجهاز الأدنى للجهاز الأعلى، ولا يُسمَح بأي قرار إداري نابع من رؤية خارج السلطة المركزية العليا، ما يعني وأد روح الإبداع والابتكار خارج إطار السلطة.
وعندما يتجّه التفسير أو التعريف نحو الحكومة المركزية، فإنها الحكومة التي يتم فيها ممارسة السلطة أو السلطة القانونية وتنسيقها بحكم الواقع السياسي التنفيذي للدول الاتحادية والسلطات المحلية، وغير ذلك من الوحدات الصغيرة التي تعتبر خاضعة لها، وفي جميع الأحوال يبقى القرار وصناعته حكرا على الجهة العليا أو المركزية التي قد تكون ممثلة بالفرد القائد أو الحزب الواحد.
وجميع الحكومات المشّكلة تكون، بدرجة ما، مركزية بالضرورة بمعنى أن الدولة الاتحادية من الناحية النظرية تمارس سلطات وصلاحيات تفوق الأجزاء المكونة لها، لدرجة أن الوحدة الأساسية بالمجتمع تتولى السلطات المخولة بوحدة أكبر مثل الدولة أو المجتمع المحلي، ومن ثم تكون السلطة مركزية، بكل ما يتبع ذلك من مساوئ تنعكس على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضا.
ضغوط لإقصاء المركزية
بعد هذه المقدمة، قد يكون من المفيد أن نطرح سؤال مباشرا، تُرى ما هي المساوئ التي تظهر على الصعيدين السياسي والاقتصادي في إطار النظام المركزي، إننا نعتقد بأن تكثيف السلطات، وحصرها في مركز سلطوي واحد، يشكل عامل ضغط على الجماهير، بسبب تدني وظيفة الحكومة ما يسهم في مضاعفة الدوافع لطلب التغيير والإصلاح السياسي، حيث يعاني الشعب من نظام سياسي، ذي سلطات مركزية، لا تسمح للأطراف بالتحرك الحر الذي يتيح لها خيارات أفضل، بسبب تعدد الآراء والنظريات، والغنى في هذا التعدد، على العكس من البقاء ضمن رؤية واحدة ومسار منكمش.
لذا فإن المركزية كانت هي السبب الأساس في الطلب الجماهيري بالتغيير السياسي، بعد أن انعكس ذلك على رداءة الاقتصاد وضعفه، ما قاد الى المطالبة برفض النظام المركزي والحد من تمركز السلطة في ذات واحدة فرد أو جماعة، وهو ما يسمح للجميع بالحصول على نسبة متساوية من السلطة، ولا نعني هنا بجملة تفتيت السلطة، إضعافها أو الانتقاص من دورها الدستوري، وإنما العمل على توزيعها على من يستحق ممارستها بعيدا عن التكثيف والتمركز، وفقا للمنهج المؤسساتي المحكوم بضوابط دستورية تتحرك في ضوئها مفاصل الدولة كافة، فالمهم بعد إزاحة المركزية، أن يتم توزيع السلطات بشكل دقيق، وأن يشترك المعنيون في صناعة القرار وفق الضوابط المنصوص عليها في الدستور.
لذا فإنا النقيض للمركزية، كما يتضح هي الديمقراطية، ويتضح من هذا التوصيف، أن الصراع ينحصر بين الديمقراطية كمنهج حياة متحرر، وبين المركزية السياسية عندما تتحول الى أداة معنوية مادية ضخمة متسلطة، تهمّش الجميع وتحصر التنفيذ الحكومي ضمن إرادتها المنفردة بكل مفاصل وأشكال حركة المجتمع، بكلمة أوضح، أن جوهر النهج الديمقراطي يتمثل برفض تركيز السلطة بيد فرد أو جماعة، ومن ثم الانطلاق نحو المجالات الاخرى كالاقتصاد والتعليم والصحة، وما يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو كيفية إدارة مفاصل الاقتصاد، إذ ينبغي أن نقصي المركزية الاقتصادية، ولكن بعيدا عن العشوائية، وتمكين الخبراء ذوي الشأن من إدارة الاقتصاد بطريقة ناجحة.
العراقيون والمرحلة السياسية الحرجة
السؤال الذي ينبثق عند هذه النقطة تحديدا، هل هناك فرصة لترسيخ بديل ناجح للنظام المركزي في العراق؟، لا شك أن هنالك تجربة ديمقراطية تتفاعل وتنمو (مع وجود العقبات الداخلية والخارجية) لكي تشكل بديلا ناجحا للمركزية وتكثيف السلطات، وهذا ما تعلنه الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية المنخرطة في العمل السياسي، ولكن ثمة فرق بين أن تعلن أهدافك بوضوح وبين ما تُفصح عنه عمليات التطبيق، فالميدان العملي هو كاشف النوايا والافكار والاهداف معا، وإذا أردنا أن نسأل أنفسنا كعراقيين، هل أننا أصبحنا في منأى عن خطر مركزية السلطة وتكثيفها للحد الذي يجعل الاطراف في مأمن من خطر التهميش؟، فإننا سنكون بحاجة شافية وافية بعيدة عن المحاباة والمجاملة، فنحن ازاء ظرف عصيب ومرحلة حرجة لا يزال العراقيون مطالبون بعبورها سالمين غانمين.
ولكن من أين يمكن أن نستقي الجواب؟، إنها حتما سوف تنبثق من حركة الواقع السياسي، إذ عدد من الشواهد، بأن خطر تكثيف السلطات لا يزال قائما، وإذا صحّ مثل هذا القول، فإن ديمقراطية العراق لا تزال تتنافس او تصارع المنهج المركزي، وربما هناك فرصة لعودة العراق الى الوراء، أي الى مرحلة السلطة الواحدة والصوت الواحد والرأي الواحد، وهذا يعني عودة الى الشمولية التي دفعت بالعراقيين الى الانتفاض على حكوماتها السابقة عدة مرات كما يشير التاريخ السياسي القريب الى ذلك، هل ثمة مبالغة في طرح رأي من هذا النوع، وهل بات مستحيلا تفوق أو عودة المركزة السياسية والاقتصادية؟ إن الإجابة هنا ستترك لذوي الشأن، حتى تكون هناك وقفة جادة وحقيقية بشأن خطر المركزية.
من خلال حركة الواقع السياسي والاقتصادي في العراق، وطبيعة هذه التحركات يعطينا أدلة وشواهد تؤكد خطورة تركيز السلطات، وبعضهم يضرب مثلا عن ذلك بتبعية بعض المؤسسات والمفوضيات المستقلة الى السلطة التنفيذية، مثل مفوضية الانتخابات المستقلة والبنك المركزي وغيره، الحكومة تقول إنها جهة إدارية لا أكثر، فيما يرى البرلمان أنه الأحق بتبعية مثل تلك المؤسسات له بصفته ممثلا للشعب، أما الصحيح بحسب خبراء مختصين، فإن مثل هذه المؤسسات ينبغي أن تبقى بعيدة عن أوامر السلطة التنفيذية حتى لا نقع تحت خطر المركزية!.
وماذا بشأن الجانب الاقتصادي، هل ثمة علاقة بين المركزية السياسية ورداءة الاقتصاد؟ لا شك أن النتائج ستكون وخيمة فعلا، وبغض النظر عن المنهج التبريري من هذه الجهة او تلك، فإننا ينبغي أن نعرف ونؤمن ونقرّ بأن مبدأ ومنهج تكثيف السلطات وحصرها في جهة او فرد واحد لن تخدم الديمقراطية ولا العراقيين بشيء، وقد تظهر هنا وهناك أصوات مؤيدة لمركزية السلطة لأسباب أما سياسية، أو بسبب ضعف الحكومة والخدمات، ولكن على العموم تبقى اللامركزية السياسية هي الحل الأمثل لإدارة بلد مثل العراق كما أثبتت شواهد واقعية عديدة.
اضف تعليق