يرد في النظريات السياسية المختلفة، بعض الأسس التي تشترك بها مختلف النظريات، لدرجة أنها أصبحت قاسما مشتركا حتى بين النظريات التي تختلف مع بعضها في المضامين أو المسارات والرؤى السياسية، ومن هذه الأسس ما تقوم عليها الدولة في عالمنا الحديث، ويقف في المقدمة من ذلك نوعية النظام السياسي الذي يدير شؤون الدولة المختلفة.
هنا يمكن الجزم بأن نوعية النظام السياسي يمكن أن عاملا مساعدا على تشييد الدولة، على أن يؤمن هذا النظام بالديمقراطية فكرا ومنهجا ومنظومة حياة متكاملة، فإذا استطاع مجتمع ما من أن يعيشها كما هي على حقيقتها، هذا يعود بالدرجة الأولى الى الدستور الفاعل الذي يوفر الحماية اللازمة للديمقراطية، وهكذا تكون العلاقة بين الدستور والديمقراطية محورية لا فكاك او خلاص منها، إلا اذا أردنا أن ندمر الديمقراطية، وان نلغي الدستور، وهذا يعني بالحرف الواحد لا ديمقراطية حقيقية من دون دستور ضامن قوي وفاعل، ولا دستور مهم من دون ديمقراطية جوهرية راسخة، فالحماية في هذه الحالة تكون ثنائية متبادلة بين المرتكزين المذكورين.
علما أن الأمر له مساس مباشر بالناشطين في الميدان السياسي من أحزاب وشخصيات وغيرها، وغالبا ما تتعلق الديمقراطية بفهمنا وتطبيقنا وحمايتنا للنظام الانتخابي، الأمر الذي يستدعي منا معرفة ذلك النظام، وفهم بنوده، ومراقبة النتائج التي نتوخاها منه، لكن على العموم هناك اتفاق عام على مفهوم النظام الانتخابي، فهو يعني ببساطة، قانونا تشريعيا ينظم عملية الاقتراع بأنواعها، ويحمي صوت الناخب ويضمن توافر العدالة بين المتنافسين، بهذا التعريف الواضح لا توجد مشكلة في تحديد أهداف النظام الانتخابي الذي ينظم عملية الانتخاب، تبقى لدينا الجانب الإجرائي لعملية الانتخابات، فهل هي منضبطة محمية، أم أنها شكلية صورية الغرض منها الإبقاء على الرئيس وحزبه وحاشيته في مناصبهم لأطول فترة ممكنة.
إشكاليات التفرّد بالسلطة
في الإطار الديمقراطي السليم، توجد مجموعة خطوات لابد من الالتزام بها، إذا أرادت الدولة أن تضمن نظاما انتخابيا عادلا، يحرص كل الحرص على حماية صوت الناخب، وذهابه الى مكانه الدقيق والصحيح، تلك الضمانات تنتهي الى الدستور، والى الاستشارية او الديمقراطية التي ينبغي أن يحمي بعضهما بعضا، فالدستور لابد أن يشكل الحماية اللازمة للديمقراطية من اجل تحصين النظام الانتخابي من الزلل، وهذا الهدف لا يمكن أن يتم من دون التزام تام من الناشطين السياسيين بقواعد اللعبة ومسار العمل السياسي.
كذلك هنالك ارتباط بين نجاح الدولة وتفوق الفرد في هضم المنهج الديمقراطي والإيمان به، وتحوله الى منهج سلوكي، وقد ركّز الفلاسفة منذ أوائل انشغالهم بالمنهج الديمقراطي والأنظمة السياسية، على أهمية أن يتحرر فكر الإنسان وفعله، ولا يمكن بلوغ هذه المرحلة ما لم يصبح سلوك الإنسان متحررا بصورة آلية كسلوك تلقائي وليس قسري او ذا طابع شكلي بحت، ولكن كل الدلائل تشير الى أن معاناة الإنسانية كبيرة، لدرجة أن القانون كان مفقودا، ولم يكن يحمي سوى مصالح وجبروت الطغاة، حيث كان هؤلاء يكتبون الدساتير وفق ما يرغبون وبما يضمن لهم فترة أطول في سدة الحكم.
علما أن الدول التي تقودها نظم تتخذ من الإسلام دينا رسميا لها، تواجه مشكلة التفرد بالسلطة، ولعل الخلل الأكبر في حكومات تلك الدول، إنها كانت ولا تزال تفتقر للتعددية، فضلا عن ضعف المنهج الديمقراطي الاستشاري التحرري، وقد تناقلت الأجيال مورثا قمعيا في الحكم السياسي سواه أيضا، بمعنى معظم السلطات السياسية وحتى الاجتماعية كانت تنتهي الى نوع من الإكراه يلغي بشكل قاطع هامش حرية الرأي والتفكير، بسبب سلطة الحاكم في الدولة، وسلطة الأب في العائلة!، فقد سادت حياة الإكراه في مؤسسة العائلة، حتى صار الأب في العائلة مثل السلطان الأوحد في المملكة، على الرغم من ضيق مساحة العائلة، فانتقلت هذه السلطة الأبوية عبر الأجيال، ليتحول المسلمون الى مجتمعات صانعة للطغاة بجدارة!، فلا ديمقراطية ولا حرية للرأي، ولا مكان للاستشارة، فضاع حق الأكثرية والأقلية معا، وبقي الحاكم الفرد هو الذي يتصرف في شؤون الرعية الصامتة كما يشاء، وكان رأيه هو الصحيح دائما، حتى لو كان غير صائب، ولعل الكثير من قادة المسلمين قادوا دولهم وشعوبهم الى كوارث يندى لها الجبين، بسبب قرارات فردية طائشة، أبتْ أن تشرك أحدا مع القرار الذي ينفرد به الحاكم، فكانت الكارثة تحدث أمام مرأى الجميع، من دون أن يتفوه احد بكلمة، بسبب وسائل البطش والقمع السياسي الذي يعمل لصالح الحاكم الفرد في ظل ضعف الدستور والأسس الداعمة لاستقرار الدولة!.
انتظام العلاقة بين الحاكم والمحكوم
وعندما يتم تعطيل أهم وثيقة تنظم الحقوق والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ونعني بها الدستور، فإن الديمقراطية تكون شكلية، مع ضعف أو غياب النظام البرلماني الذي يضمن حقوق الأكثرية في الانتخاب والاختيار، ويحمي الأقليات من التجاوز، على الرغم من ان النظام البرلماني اثبت نجاحه في عدد من التجارب السياسية، كان دستورها فاعلا وقويا وملزما، في ظل ديمقراطية داعمة للدستور، فنجح النظام البرلماني بسبب العلاقة المتبادَلة بين الديمقراطية والدستور بصورة صحيحة، وثمة نتائج يمكن أن نلمسها لمس اليد، ونراها بالعين المجردة، عندما يكون الدستور قويا فاعلا ومصانا، لذا مما تقدم، يتضح لنا، أن الدستور هو دعامة أساسية لبناء الدولة المدنية، وأن الديمقراطية تشترك معه في تحقيق أهداف الأمة، ولكن هناك وسائل وسبل لابد من الالتزام بها، بمعنى نحتاج الى أن نحمي الديمقراطية، ولن يتحقق هذا إلا بالدستور القوي الراسخ الذي يضمن الحقوق والواجبات، بصورة مطلقة لا مجال لأي خلل فيها مهما كانت نسبته او مساحته صغيرة، لقد أثبتت مجريات التاريخي السياسي القديم والحديث على حد سواء، أن ضعف الدستور يؤدي الى نتائج ذات طابع مدمّر، يجعل من مصير الأمة مرتبطا بالطغيان، أو إرادة الحاكم الفردية، حتى يبدو من فهم التجارب العديدة، ان ثمة علاقة وشيجة بين الطغيان وضعف الدستور، بمعنى عندما يصبح الدستور شكليا ضعيفا، سوف يكون البديل سلطانا جائرا، وطغيانا لا حدود له، وبالعكس من ذلك عندما يحكم الشعب نفسه بنفسه، وفق مؤسسات دولة قوية يضمن الدستور استقلالها وقوتها، فإن الحاكم سوف يكون موظفا حكوميا يتقاضى راتبا شهريا عن عمله القيادي كأي موظف آخر في الدولة، وتبقى عملية صناعة القرار ذات طابع جماعي تشترك فيه المؤسسات، وفقا للتشريعات البرلمانية التي يكتبها ممثلو الشعب تحت قبة البرلمان، في حرية تامة، وديمقراطية ضامنة ومضمونة في الوقت نفسه، ولكن في ظل الأنظمة السياسية التي سعت الى التفرد بالسلطة، واختصار الدستور بشخص القائد، والحزب الواحد، قادت الدولة من ضعف الى ضعف، وهشمت الأسس الرشيدة لبناء الدولة المتقدمة المستقرة.
لذا فإن الأسس والمقومات الداعمة لتشييد الدولة تتمثل بالدرجة الأولى في بنود الدستور المستفتى عليه من لدن الشعب، والذي ينبغي أن يكون ممثلا له خير تمثيل، وهذا لا يمكن أن يحصل في ظل أنظمة قمعية متفردة بالسلطة، وإنما ينبغي أن يكون النظام السياسي ديمقراطيا، ملتزما ببنود الدستور، بدءا من الحاكم مرورا بالوزراء، ومؤسسات الدولة المستقلة، هذه هي الأسس الرشيدة التي ينبغي أن يقوم عليها بناء الدولة في عصرنا الراهن.
اضف تعليق