في مسعى فردي، وتحت إلحاح هاجس الاكتشاف الثقافي، أجريت مسحا لثقافة الشباب العراقي، في موقع الفيس بوك تحديدا، ومن خلال صداقاتي لأغلب الشباب الناشطين والخاملين من الشباب، استطعت أن أكوّن وجهة نظر شخصية حول طبيعة تفكيرهم وثقافتهم، وبماذا يؤمنون وما هي المزايا التي يتحلّون بها، وما هي العثرات أو المشكلات التي وجدتها في وعي بعض الشباب، وهنا أتكلم من منطلق تجربة العمر الطويل الذي يبلغ أربعة أو ثلاثة أضعاف عمر الشاب، فضلا عن الخبرات التي اكتسبتها في المجال الثقافي بحكم تخصصي الأدبي، ودخولي في مجال الكتابة الصحفية منذ عقد ونصف تقريبا.
بعد هذه المقدمة ربما يحق لي أن أقول رأيي في المستوى الثقافي للشباب العراقي، كما لاحظتُ ذلك في موقع الفيسبوك، حيث يمكن اعتبار هذا الموقع مجسّا نستطيع من خلاله اكتشاف بعض الظواهر الثقافية والسياسية والاجتماعية وغيرها، علما أنني لا أمنح نفسي درجة معينة من النجاح في هذا المسعى، بقدر ما هي محاولة لمتابعة لغة الشباب وحواراتهم وأفكارهم، ومحاولة لاكتشاف المزايا والإخفاق الثقافي لدى شريحة مهمة من المجتمع.
من المهم أن نقول أولا أن ثقافة الشباب واتجاهاتها يمكن أن تعطي تصوّرا عن طبيعة المجتمع كله، وقد لا نخطئ إذا قلنا أن هذه الشريحة يمكن أن تكون المجس الدقيق الذي يمكن لنا من خلاله أن نمنح مجتمع ما درجة نجاح أو إخفاق في الحياة، وفي الفكر، وفي السلوك، وفي اللغة والحوار والتنظيم ومجمل الأنشطة الأخرى، ولا أظن أن هنالك مجتمعا مبدعا ينطوي على شريحة شباب خاملة، ويصح العكس بطبيعة الحال، من هنا يمكن اعتبار الشباب معيارا لمعرفة ثقافة وفكر وسلوك عموم المجتمع.
هذا بالضبط ما حفزني كي أتابع ثقافة الشباب العراقي، ضمن ما متاح في هذا الحيّز الافتراضي الدقيق، فأتابع الأنشطة الثقافية والفنية التي يقيمها مجاميع جيدة ومتميزة من الشباب العراقي في العاصمة والمحافظات الأخرى، مثال ذلك ما تصدى له نخبة من الشباب في مشروع القراءة، وضمن مشروع (أنا أقرأ .. أنا عراقي)، كذلك ضمن المشاريع القرائية التي اتخذت تسميات مختلفة، لكن مفردة القراءة في هذه العناوين والتسميات حاضرة بقوة ومحورية.
لدينا مثل قريب زمنا وجغرافية، الزمن قبل أشهر قليلة، المكان في مدينة كربلاء، أقام مجموعة شباب متميزين شارعا للثقافة على غرار تجربة (شارع المتنبي)، ونجح هؤلاء في تقديم عروض مسرحية وأمسيات أدبية ومعارض للكتاب، ومعرض للتحف الفنية ومصنوعات فردية بالغة الدقة والبساطة والجمال، كذلك هنالك مشاركات خطابية فكرية شبابية جيدة، واستقطبت هذه الفعالية جمهورا جيدا نوعيا وشعبيا بالإضافة الى حضور نخبة من أدباء ومفكري وفناني هذه المدينة، ما يعني وجود التداخل والتشابك بين الأجيال كافة وتناقل الخبرات.
مشاريع ثقافية هادفة
في محافظات أخرى قدم مجاميع من الشباب العراقي مشاريع ثقافية مماثلة او مختلفة لكنها تقع ضمن إطار الثقافي الفني الفكري المتميز، مع العمل المستمر على الترويج لهذه المشاريع في الفيس بوك خاصة وفي المواقع الأخرى بدرجة ربما أقل، هذه الفعاليات تعطي صورة على حيوية الشباب العراقي ورغبته في مواكبة التطور الثقافي عربيا وإسلاميا وعالميا، ولكن هل يعني هذا أننا حققنا ما نصبو إليه في هذا المجال؟.
وإذا أضفنا الى ذلك فعاليات طوعية قام بها مجموعات شبابية للتنظيف والرسم على الجدران وتقديم بعض المساهمات في تطوير الذائقة الشعبية وما شابه، هل يمكن أن نقول أن هذه الحالات والمبادرات تعطينا تصورا تاما على طبيعة المستوى الثقافي والتفكير الشبابي في العراق؟، نعم هناك مساهمات ورغبات لتقديم أعمال طوعية جيدة، ولكنها في الحقيقة لا تشكل ظاهرة يمكن أن تعمَّم على كل مساحة المجتمع، وحتى لو حصرنا هذا القول في الشريحة الشبابية، فإننا يمكن أن نقول بأن نسبة كبيرة من الشباب العراقي لا تزال في الظل أو العتمة.
وعندما نريد أن نكون موضوعيين وجادين في ما نذهب إليه، علينا أن نؤشر الأمور واقعيا، وليس كما نحلم أو نريد أو نرغب، لذا ليس صحيحا أن نذرع للشباب العراقي في الجنة، ونحن نعاني من جحيم التأخر في مجالات كثيرة، ليس هذا القول من باب الإحباط وتثبيط الهمم، ولكن علينا أن نرى الحقيقة كما هي والأخطاء مثلما تحدث في الواقع كي نكون قادرين على تحديدها وتأشيرها ومن ثم التخطيط لمعالجتها.
هذا يعني أن ما يتم تقديمه من فعاليات وتجارب ثقافية وفكرية وفنية وشبابية، لا يمكن أن تمثل مجسّا لقياس مدى فاعلية وتطوّر الوعي الشبابي في مجاليّ الثقافة والفكر، حتى الفعاليات الطوعية الشبابية رغم أنها مؤشرات رائعة لكنها تبقى (نقاط قليلة في بحر المشكلات الشبابية)، هذه المشكلات التي يمكن لنا اكتشافها ورؤيتها في الفيس بوك وفي الواقع الحياتي الذي يواجهنا وجها لوجه، وهي مشكلات تتجلى في حالات التطرف والتعصب والكراهية وانتشار لغة حوار هابطة وشيوع مفردات سوقية لا تليق بالشاب، كونه يمثل الواجهة الجميلة والراقية للمجتمع، أو كما يُفتَرض به أن يكون، في الواقع لا يمكننا القول بأن جميع الشباب يشكلون اليوم صورة مشرقة للمجتمع، ويكفي أن نطل على صفحات الشباب والكروبات الخاصة بهم لكي نكتشف المشكلات الفكرية والسلوكية التي يعاني منها شبابنا.
التطرف في مخاطبات الشباب
من الملاحظات التي لا تسرّ لدى الشباب، تلك النزعة المغالية في حدّة الحوار، والتعصب للفكر، وتسقيط الآخر أو تهميشه، أو إشعال فتيل الكراهية ضده، يستطيع المتابع أن يكتشف هذا النوع من الأفكار ولعة الحوار الحادة، والتي تخرج أحيانا عن السياق الإنساني، فأنت يمكنك أن تطرح رأيك كشاب من حقه أن يعبر عمّا يؤمن به ويفكر حوله ولا أحد من حقه أن يجبر الشاب على تغيير ما يؤمن ويعتقد به.
ولكن ينبغي أن تكون طريقة طرح الرأي أو الأفكار بأسلوب متحضّر لا يقصي الآخر، ولا يُنكر عليه آراءه وما يغتقد ويؤمن به، ولكن عندما نتابع مساحات الفيس بوك سوف نصاب بالخيبة للأسف، وسوف نكتشف من دون عناء كبير، أن شبابنا نتيجة للإهمال الذي يتعرضوا ولا زالوا يتعرضون له، لم تتشكل لديهم قوّة الحجة، ولا سداد الرأي، ولا الفهم الصحيح لطبيعة وأهمية التعايش بين جميع مكونات المجتمع، أو الرؤية الإنسانية للآخر المختلف أو حتى المؤيد.
لهذا لاحظنا أن الخطاب الشبابي في الكثير من العلل ويتخلله الزلل هنا وهناك، في طبيعة الحوار أو طرح الأفكار، ولعله يمكن القول أن أصعب مشكلة تواجه الشباب اليوم هي اللغة السوقية التي تتخلل حواراتهم المتبادلة، لذا من أهم الخطوات التي ينبغي أن تقوم بها الجهات المعنية الحكومية والمدنية (منظمات مجتمع مدني، منظمات ثقافية، إعلامية، اتحادات أدبية، منظمات فكرية) وسواها، هي بلورة خطط تطويرية لأفكار الشباب واللغة التي يتحاورون بها، بعيدا عن التطرف والتعصب والإقصاء.
هل يمكن تجديد خطاب الشباب؟ بالطبع هنالك إمكانية لتحقيق هذا الهدف، ولكن ليس الأمر بهذه البساطة، ولا يمكن أن يتحقق بالتمني أو الكلام المرتجل ولا بالدعوات العشوائية، إنه هدف تثقيفي فكري أخلاقي عميق ومركب وفيه صعوبات بالغة لابد من سبر أغوارها أولا ثم وضع الخطط العملية اللازمة.. لتجديد الخطاب الشبابي الفكري الأخلاقي الإنساني للشباب، لأن الخطاب هو وعاء الفكر الذي ينعكس عنه السلوك.
اضف تعليق