إن أهم الإشكاليات التي ترد على أسلوب العنف في عملية التغيير هو شرعية استخدام العنف، إذ أن هناك من شكّك في استخدام العنف واعتبره غير قانوني، فالعنف عنده هو (الاستعمال غير القانوني لوسائل القسر المادي والبدني ابتغاء تحقيق غاية شخصية أو جماعية)(1)، وهو أيضاً (الاستخدام غير المشروع للقوى المادّية بأساليب متعددة لإلحاق الأذى بالآخرين والإضرار بالممتلكات وتتضمّن معاني الاغتصاب والعقاب والتدخّل في حريات الآخرين)(2).
ويفهم من هذا الكلام هو شرعية العنف عندما تستخدمه السلطة وعدم شرعيته عندما تستخدمه المعارضة. ولا شكّ فإن التمييز بين عنف السلطة وعنف الجانب الآخر ينطوي على مغالطة واضحة فالعنف هو واحد سواء كان يرتكز على مبررات قانونية فرضتها السلطة الحاكمة بالقوة، أو يرتكز على مبررات عقائدية أو آيديولوجية، لأن (الإرهاب أصبح وسيلة مرتبطة بالعنف الأيديولوجي المنظَّم والموجّه ضدّ العدو الأيديولوجي باعتباره مجرماً أخلاقياً وتاريخياً وأيديولوجياً، وبالتالي فليس هناك مجال لاعتبار نوعين من الإرهاب متمايزين جوهرياً واحد قبل تولّي السلطة والثاني بعده، إنه في كلتا الحالتين إرهاب واحد مهما اختلفت الأساليب والأجهزة التي تنفذه)(3).
ومهما حاول دعاة العنف أن يضفوا على حركتهم الشرعية والقانونية يبقى اسلوب العنف –جوهرياً- عملاً لا يستند على أسس مقبولة من كل الجهات شرعياً وأخلاقياً وفطرياً، ذلك أن (الإرهاب يستمدّ قوته ويكتسب فعاليته من كونه غير مقنّن أي أنه لا يقيد بقواعد ثابتة متفق عليها ومعترف بها ومن هنا فانه مخيف ومرعب، إن القواعد والقوانين التي يتقيّد بها الإرهاب هي كل ما يخدم القضية التي يناضل من أجلها)(4).
إن استناد البعض في استخدام العنف بمواجهة عنف الأقوياء لا يمكن أن يضفي الشرعية على أسلوب العنف لأن العنف المضاد قد يكون أقوى وأكثر دماراً وبذلك يفقد كلّ تبريراته الدعائية التي يعتمد عليها.
وعلى صعيد مصادر الشرع الإسلامي فإنّ المنهج الكلي الذي تصوغه هذه المصادر هو الإشكال في عملية استخدام العنف. ففي القرآن الكريم هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تثبت أرجحية السلام والسلم وترك العنف مثل: (وعباد الرحمن.. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (سورة الفرقان: 63-72)، (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (سورة فصلت:34)، (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)، (سورة البقرة: 208)، (وإنْ جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله)، (سورة الأنفال: 61)، (فبما رحمة من اللهِ لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم)، (سورة آل عمران: 159) (وإن تعفوا أقرب للتقوى) (سورة البقرة: 237)، بالإضافة إلى كثير من الآيات التي وردت في هذا الباب، لذلك فان (الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل؛ والحرب هي الاضطرار، وإن الجهاد والحرب حكمٌ ثانوي اضطراري وإن السلم هو الحكم الأوّلي)(5).
وقد حاول البعض الاستدلال بآيات من القرآن الكريم لإثبات شرعية العنف كآيات الجهاد والقتال وردّ العدوان، والحال إن الجهاد في سبيل الله لا يعني العنف بالإضافة إلى أن تطبيق حكم الجهاد والقتال في سبيل الله يخضع إلى شروط وقيود كثيرة ذكرتها أبواب الفقه الموسّعة.
أولها اتباع السلم (فان اعتزلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) (سورة النساء: 90)، وكثير من آيات القتال وردت في موارد خاصة في حروب الرسول (ص) مع المشركين بعد أن أذِنَ الله تعالى له بالقتال (أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) (سورة الأنبياء: 38)، لذلك لا يمكن الأخذ بها كدليل على جواز العنف لأنها من الموارد التي يتم فيها التعرّض لدماء الناس وأموالهم وأعراضهم.
وعلى فرض التسليم بدلالتها فان الإشكال يبقى في كون هذا المصداق هو من المصاديق التي ينطبق عليه مفهوم الآية القرآنية، كما ذكر التاريخ ذلك في قضية الخوارج الذين رفعوا شعار لا حكم إلا لله تمسّكاً بظواهر بعض الآيات من دون التوغُّل إلى مضامينها وأعماقها، لذلك نرى أن (الإسلام يجعل للحرب قيوداً وشروطاً مع أنه أوجب الجهاد الابتدائي أحياناً والدفاعي أحياناً أخرى، وإنما جعل هذه الشروط والقيود الكثيرة حتى لا تكون الحرب إلا بقدر الضرورة الشديدة، ثم إذا انتهت الحرب يعفو الإسلام ويغفر ويطلق سراح المجرمين مهما وجد إلى ذلك سبيلا)(6).
أضف إلى ذلك أن العنف يعد من الأمور الخطيرة التي تتعرض فيها الأنفس والأموال والأعراض لخطر الانتهاك والاستباحة، ففي الآية القرآنية التي هي في مقام تشريع القصاص والرد بالمثل أمر تعالى بالتقوى والاحتياط: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)، (سورة البقرة: 194) لأنّ استعمال العنف أمر خطير حتى في الموارد التي يمتلك فيها الفرد حق ردّ العنف إذ أنه قد يؤدي إلى الطغيان والتجاوز الذي لا يمكن لجمه، وقد قال تعالى: (مَنْ قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (سورة المائدة: 32).
اضف تعليق