يؤاخَذ على قادتنا إهمالهم للتجارب التي مرَّ بها السابقون، فكما هو معروف أن التجربة مفيدة في حالتيّ النجاح والفشل، القائد يمكنه أن يتمثَّل التجربة الناجحة في القيادة ويحاكيها، ويستفيد من مضمونها، خاصة إذا كان جادّا في أخذ ما هو متميز منها، وبهذه الطريقة يستطيع أن يكون قائدا ناجحا من خلال توظيف المتميز من تجارب القادة الناجحين.
وكذا ينطبق الأمر على التجربة الفاشلة، فدراسة القائد لها، تعني منحه خبرة إضافية لتجنب الأخطاء السياسية التي قادت تلك التجربة الى الفشل، ولكن ما يُؤسَف له أن قادتنا أو معظمهم لا يطّلعون على تجارب غيرهم، كأنهم كارهون لقراءة التاريخ ورافضون للمزايا التي يقدمها لهم، وهناك من لا تعنيه التجارب لأنه لا يفكر إلا في حماية عرشه وزيادة نفوذه ومضاعفة كنوزه، وهذه كلها عوامل تساعد على فشل القائد وتسرّع من وتيرة سقوطه.
لماذا لا يريد قادتنا السياسيون أن يفهموا أن الارتباط بأواصر الماضي يؤدي بالنتيجة الى فهم الحاضر وكسب المستقبل، فالتأريخ مدرسة أزلية لا أحد يستطيع غلق أبوابها، مدرسة تتضخم مع مرور الزمن، لتقدم تجارب متنوعة ومتناقضة، وتعطي دروسا مجانية للجميع، للبسطاء من الناس والعظماء منهم، ولكن هناك من يسعى ويبحث عن هذه الدروس، ويحاول أن يهضمها بطريقة صحيحة، ثم يوظفها لصالح أهدافه، وهناك من يغض الطرف عنها، أو يتحاشاها، أو يهملها، نتيجة لانشغاله بالمنافع الآنية التي تعمي البصائر والابصار، فتراه موغلا في المتع، والملذات، والبحث عن المال، والقوة، والجاه، والنفوذ، غافلا أو متغافلا عن دروس التأريخ، من دون أن يعلم أنه بإهماله هذا إنما يعجّل بنهايته، لذلك يتساقط القادة الذين يهملون تجارب غيرهم تباعا كما تتساقط أوراق الخريف بعد أن تفقد قدرتها على مواصلة الارتباط بأسباب البقاء على قيد الحياة.
الحرص على سعادة الشعب
في كلمتنا هذه، نحاول أن نقترب من الأسباب التي تقف وراء تراجع قادتنا في إدارة السلطة، أين يكمن الخلل بالضبط ولماذا لم يسعَ هؤلاء الى معالجته، هل هي ضآلة في الذكاء، أم انشغال بما لا يستحق الانشغال فيسقط القائد في الهوامش والصغائر ويبتعد عن الجوهر والأهم، نتحدث هنا عن الساسة العرب ومن ضمنهم العراقيين بطبيعة الحال، قد يختلفون عن غيرهم من ساسة العالم، فهم إما يعطون ظهورهم لمدرسة التأريخ، وبذلك يخسرون الفنار الذي يسترشدون به الى نتائج محمودة، لذا تراهم ينتهون الى ما لا يسرهم ولا يُفرح شعوبهم، وثمة منهم مَن يقرأ التأريخ، ولكنه لا يستوعبه بالطريقة المطلوبة، ولا تصل إليه عصارة الدروس أو لبّها، وبذا فهؤلاء لا يختلفون عن أولئك الذين أهملوا لتأريخ، لكن الطرفين لم يتعاملا مع هذه المدرسة بما تستحقها من اهتمام، ومع أن التاريخ قد يكون عبئا على الإنسان في حالات معينة لكننا نقصد هنا التجارب المفيدة التي تمنح الدارسين فوائدَ جمة، خبرات وخطط وأفكار وطرق متميزة للتنفيذ ينتهي بهم الى إسعاد شعوبهم وبناء دولهم.
لعلنا نتفق أنه لا يوجد من يسعى الى الفشل أو السقوط، سياسي أو غيره، ولكن هناك من لا يدرك أن يسير بقدميه نحو الهاوية، بعضهم قد يبحث عن النجاح ويتشبث به، لكنه مع ذلك يفشل، تُرى أين يكمن السبب؟، إن السياسي كما نتفق، مهني يريد أن يبني حاضره ومستقبله، من خلال الميدان العملي الذي يتحرك فيه قائدا أو مساعدا، فهو لا يختلف عن الطبيب أو الميكانيكي أو الفنان من حيث كونه مهنيا عاملا، فهؤلاء وغيرهم يسعون بجد لبناء حاضر ومستقبل، يساعدهم على التميّز والنجاح، ويرغبون أن ينعكس هذا النجاح على أبنائهم، لكن هناك فرصة مجد كبرى قد تتحقق للسياسي، من دون أن تتحقق للمهن الأدنى في المسؤولية، وبهذا لابد للسياسي أن يبدأ صحيحا، ويستمر صحيحا، هنا ليس أمام القائد سوى الاهتمام بمدرسة التاريخ، والغطس في أعماقها واغتراف التجارب الناجحة من أعماقها، بهذه الطريقة يمكن له أن يقتنص المزايا التي يستضيء بها وهو يتصدى لمسؤولية إدارة الدولة وقيادة الشعب.
القائد المثقف وبوابات النجاح
مع ذلك هناك خلل في هذه القضية بالذات، نحن إزاء قادة من صنفين، أما يهملون التجارب بصورة مطلقة ولا يعيرونها أية أهمية، أو أنهم يستغورون بطونها ويطلعون عليها لكنهم يهملونها، فتكون النتيجة للصنفين واحدة هي عدم الاستفادة منها، ولا نعرف تحديدا لماذا لا يهتم السياسيون العرب بما يفيدهم، فحتى لو قرؤوه ونهلوا منه دروسا وتجارب كثيرة، فنحن لا نعرف ايضا لماذا لم يستفيدوا منها، كل الدلائل تشير الى أن السياسي العربي أحد إثنين، أما لا يقرأ التأريخ، وأما يقرأه ولا يعتبر به، وما يدفع الى هذا الاستنتاج، طبيعة الانظمة السياسية التي لا تريد أن تفهم بأن عصر القمع قد ولّى الى الابد، وأن العصر الراهن والعصور القادمة تصلح فقط لأجواء الحرية، والديمقراطية، والتنوّع، واحترام الآراء كلها.
من الأهمية بمكان أن يثقّف القائد نفسه، مهما كانت ثقته بقدراته ومواهبه القيادية، لا يمكن أن تكون قائدا متميزا إذا لم تكن مثقفا مطّلعا وواسع المعرفة، أما عكس ذلك، أي عندما يثق القائد بنفسه لدرجة ترفّعه وتكبّره على تجارب الآخرين، فإن ذلك لن يصب في صالحه، ذلك أن جميع السياسيين الذين أهملوا التأريخ، أو نظروا في تجاربه ولم يأخذوا بها، إنتهوا الى مستنقع الطغيان، ثم الى نتيجة الخلع أو القصاص الذي يليق بالطغاة، أولئك جميعا غاصوا حد النخاع في الدفاع عن عروشهم ومناصبهم، واستماتوا من اجل البقاء يوما آخر، وسرقوا أموال الشعوب وحوَّلوها الى ارصدة في بنوك الخارج او الداخل، مع منتجعات وفلل فارهة، ويخوت، ومزارع، وشركات كلها جاءت من حقوق الشعوب، وعلى حساب لقمة عيش الفقراء، وكل الشواهد الراهنة تشير الى مليارات الدولارات التي سرقها مَن خُلِع من عرشه أو الذي يترقّب النتيجة نفسها، فهذه هي النهاية التي تناسب من لا يريد أن يتعلم ولا يرغب أن يخدم شعبه بالصورة الصحيحة ويبني الدولة كما ينبغي.
ثمة عقبة أم إشكالية أخرى، أن هناك بعض القادة حتى عندما يرى سقوط آخرين بسبب أخطائهم، لا يسعى لتجبها، بل يبقى يختط طريقا مشابها لطريق السقوط، لذا فإن المشكلة تتمثل في بعض الساسة الذين يتجاهلون التجارب المحايثة لهم، فحتى بعد الدروس الآنية الساخنة والقاسية التي يعايشونها، لم يتنبّهوا بصورة حقيقية لما ستؤول إليه سلطاتهم، فهؤلاء يعيشون في انشغال مستمر بحماية السلطة بالحديد والنار، كذلك نراهم في حالة انشغال بمواصلة النهب والسلب والتجاوز على أموال شعوبهم، لكنهم سوف ينتهون الى ما انتهى إليه السابقون، والغريب في الأمر إصرارهم على الخطأ رغم أنه يذهب بهم الى الهاوية.
ما ينبغي أن يستخلصه قادتنا، أولا قراءة التاريخ والإطلاع على تجارب الساسة والقادة الراحلين، كي يعرفوا مواطن الجودة والخلل، وبعد خطوة الدراسة والفهم تأتي خطوة الاستفادة والتأمل والدراسة العميقة، وأخيرا خطوة التطبيق التي تعد من أهم الخطوات، حتى يوظف القائد ما درسه وتعلمه لصالح شعبه ودولته، وينتهي الى النجاح لتبقى تجربته متوقدة وذكراه لا تزول من بطون التاريخ.
اضف تعليق