أعاد التعديل المقترح لقانون المساءلة والعدالة هذه الايام، النقاش مرة أخرى عن جدوى المصالحة بين الاطراف المتنازعة في العراق، ولهذا أشّرت اتجاهات النقاش الدائر بين العراقيين ان محاولة تخطي الماضي وميراثه، يقارب مقولة الروائي الاميركي وليم فوكنر " الماضي ليس ماضيا أبدا، انه يعيش بيننا "، قد يكشف طرح هذا القانون بتعديلاته الجديدة الحساسيات المتراكمة التي سبق وان نحّتها او أجّلتها الاطراف المتنازعة.
ان قراءة ملف المصالحة الوطنية في العراق مرة اخرى، تشير بالضرورة لمعاينة وفحص تجربة التغيير برمتها، والنتائج التي تمخضت عنها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بعد مضي اكثر من عقد عليها، لهذا تبرز امامنا ملامح قراءتان: الاولى تكشف مدى الارتباك، بل ربما الفشل في اداء الفاعلين السياسيين للوصول الى الوصفات الناجعة والشجاعة للمضي بملف المصالحة لآفاق حلول واضحة ومحددة، تجعل ترتيبات السلطة تبتعد شيئا فشيئا عن سياق وحساسيات الماضي الاليمة، بينما تشير القراءة الثانية الى التقاطع بين سرديتين متناقضتين، تكشف الاولى ان ما حصل هو اعادة تصحيح لمسار تاريخي أقيمت خطواته على اسس خاطئة، الثانية تطرح ان ادارة السلطة بعد التغير افرزت اسلوبا من الاحتكار والهيمنة وجعلهما اداة حاضرة في ادارة السلطة.
هذا ما جعل التقاطع الحاصل بين القراءتين، وكأننا امام روايتين للتاريخ السياسي العراقي الاولى ذات مضمون تاريخي "شيعي" والثانية ذات منحى سياسي "سني"، نلمس ان هذا التقاطع المذكور قائم على ثنائية صراع بين التاريخي والسياسي.
حينما نراجع إحدى تعريفات المصالحة الوطنية، كما يذكرها الباحث فهيل جبار جلبي في كتابه المصالحة الوطنية في العراق، بأنها " العودة معا الى علاقة جديدة بعد نتائج مروعة وشاقة من جراء أفعال خاطئة مثل (الخيانة، عدم الوفاء، استخدام العنف) سواء كانت حقيقية أو محسوسة من قبل أحد الطرفين أو كليهما "، نجد ان المصالحة الوطنية امام تحدي بناء علاقات جديدة، تقوم على تخطي أخطاء الماضي عن طريق عدم تكرارها.
يواجه هذا التخطي المطلوب حساسية النسيان التي ينظر اليها العراقيون اليوم وكأنها استعادة لمقولة "عفا الله عما سلف" والتي تعني ترك من قام بفعل الانتهاك والتجاوز يفلت من العقاب، كل دلائل النسيان غير حاصلة بالمرة، بسبب ان أغلب عمليات التفاعل اليومي في حياة المجتمع العراقي مرتبطة بالتذكير لما جرى سابقا، وهذا نلمسه بما يطرح في الاعلام والصحافة والحوارات اليومية والدعاية الاعلامية للقوى السياسية الموجودة في السلطة، لذلك نلاحظ ان عمليات تخطي وتجاوز أخطاء الماضي غير حاضرة، على الرغم ان أحدى دلالات المصالحة الوطنية هي "نوع من التفاهم والتوافق للخروج من الازمة والعنف الحاصل، بالطريقة التي تعتمدها اغلب الدول في فترة ما بعد النزاع، بهدف ايجاد آليات وحلول ناجعة يقبلها الناس ويستجيب لها الواقع، عن طريق تسعى فيه الى الخير والسلم الاجتماعي وتأمل دائما بإيجاد حلول يقبلها الناس ويتفاعل معها المحيط ويستجيب لها الواقع عن طريق الانصاف وتحقيق العدالة وبالصيغة التي تجعل من المصالحة مشروع أتفاق جماعي وطني مصيري حتمي".
المصالحة الوطنية رهانات إعادة النظر:
هناك نوع من الشعور العام عند شريحة واسعة من المجتمع العراقي بأن الوضع السياسي، قد بات أمام مفترق طرق، وبالعودة الى تداعيات يوم 10/6/2014، ومراجعة كيف كان يتحدث الناس عن هذا الحدث وما الحل المطلوب تطبيقه، يؤكد تنامي هذا الشعور، لهذا نتساءل لماذا وصلنا الى هذا الحال ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟.
لقد تم التعامل مع المصالحة الوطنية على أنها مسار منفصل عن بقية المسارات المطلوب توفرها في عملية انجاز المصالحة، حيث لم يترافق مع إطلاق مسار العدالة الانتقالية عند تطبيق إجراءات المصالحة الوطنية، وفي بعض الاحيان وصلا الى حد التضارب "تطبيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية" يبين هذا الاستنتاج عدم توفر رؤية واضحة توجه خطوات برنامج المصالحة الوطنية.
المشكلة الاساسية هي عدم تمكن الفاعلين في المصالحة الوطنية من الربط بين ما يتحقق من انجاز في المجال السياسي ومخرجات عملية المصالحة، دفع هذا الاشكال نحو وقوع المصالحة تحت طائلة التجاذب السياسي وتحويلها الى وسيلة سياسية بامتياز وليست مدخلا إجتماعيا لمعالجة الازمة التي يمر بها المجتمع العراقي.
لهذا بات من المطلوب تسليط الضوء على العوائق التي منعت من إكمال مراحل المصالحة الوطنية.
يتناول الفيلسوف الفرنسي ادغار موران مسألة المصالحة من خلال مفاهيم أخرى تقع ضمن "الصفح، التجاوز، التسامح" إذ يحاول موران "اعتماد منظور يقحم مشكلة الصفح في سياقاته السيكولوجية والثقافية والتاريخية، وبالطبع، في سياق هذا القرن المطبوع بتنظيم مجارز جماعية" يقدم نموذج موران قضية حساسة وصعبة هي " مسألة الصفح " عن ما حصل سابقا، لو نقلنا هذا النموذج الى الملف العراقي، كيف ينظر الى مطلب الصفح عن أخطاء الماضي؟.
طرح مطلب الصفح في الشأن العراقي سوف يصطدم بميراث من القمع السياسي والاجتماعي غير معالج لغاية الان، كما أن النظرة الاجتماعية التي يحملها المجتمع العراقي عن مطلب الصفح يساوي التهاون والافلات من العقاب!.
هذا التساوي بين الصفح والتهاون في الثقافة الاجتماعية في العراق، يجعلنا نفكر بالسبل المتاحة لإنتاج مفاهيم جديدة تتقبل التحول الجاري في الشأن العراقي، ينطلق بناء هذه المفاهيم من مقولة "اذا كان الصفح فعلا فرديا، فان الرحمة غالبا ماتكون فعلا سياسيا".
القيد الذي يمنعنا من الوقوع في هاوية التهاون والتغاضي، هو التأسيس لحوار وطني يعتمد أليات نقل الحوار الصريح والمباشر من السر الى العلن، مع صياغة قانون يتكفل بمحاسبة من أساء للمجتمع أفرادا ومؤسسات بشكل متوازن، يأخذ بنظر الاعتبار منع تحويل الماضي الى مادة للصراع السياسي.
يلمس من يعمل على تفكيك العوامل التي أدت الى فشل تحقيق المصالحة الوطنية منذ 2006 ولغاية الان، أن عاملي "وهم الحرب، وصناعة العدو" هما من أعاق الوصول الى الحل للاطراف المتنازعة في العراق، فعامل الحرب يظهر ان "الأعمال الارهابية تقوم بها جماعات تعيش وهميا ايديولوجيا الحرب في زمن السلم، انها كمن يعيش حالة هذيان داخل قوقعة مغلقة، غير انه ما ان تتكسر هذه القوقعة حتى يعود الكثير من اعضاء الجماعات الى معانقة التوجهات السلمية"، أيضا بقي عامل صناعة العدو في العراق غير مفهوم ولم يقع تحت معنى التساؤل من يصنع العدو في ثنايا الصراع داخليا ويستثمره سياسيا واقتصاديا.
لعل الحال العراقي بحاجة الى تطبيق مقولة الفيلسوفة الالمانية حنا ارندت "يستطيع الناس البقاء كفاعلين أحرار، فقط عن طريق فك الارتباط مع ما فعلوه من قبل، ولأنهم على استعداد دائم لتغيير وجهات نظرهم واتخاذ انطلاقات جديدة، يستحقون أن تعهد لهم هذه القدرة العظيمة المتمثلة في التجديد والابتكار".
اضف تعليق